تبدو أسعار السلع الاستهلاكية في لبنان، وكأنها تغرد خارج سرب الأزمة المالية العالمية، فما زالت أسعار السلع والبضائع الاستهلاكية والخدماتية مرتفعة جداً، على الرغم من الزيادة على الحد الأدنى للأجور أواخر العام المنصرم. فارتفاع الأسعار في لبنان زاد بما نسبته 58% بين العامين 1996 و2007 وبنسبة 53% بين العامين 2006 و2008، وعملياً فإن الزيادة على الحد الأدنى للأجور هي 65% إلا أنه بالنسبة للأجر الفعلي الذي يراوح بين مليون و400 أو 500 ألف ليرة فإن الزيادة لم تتجاوز 15%.
وكانت الحكومة قد أقرت في أيلول (سبتمبر) الماضي، رفع الحد الأدنى للأجور من 300000 الى 500000 ليرة، وزيادة الرواتب 200000 ليرة شهرياً وكذلك رفع قيمة بدل النقل من 6000 ليرة الى 8000 ليرة عن كل يوم عمل، وأعطي المتقاعدون زيادة بقيمة 150000 ليرة شهرياً. وبدأ دفع الزيادة في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وبمفعول رجعي منذ بداية أيار (مايو) 2008 مقسطاً على 6 أشهر.
ومع تعثر حكومة الثلث المعطل، في إنجاز إصلاحات جذرية على الصعيد الاقتصادي، وعلى الرغم من ملاحظة مشروع الموازنة للعام الجاري انفاقاً على الدعم الاجتماعي، يبلغ 1676 مليار ليرة، وهو يشكّل11% من اجمالي النفقات العامة و18% من مجمل النفقات الأولية، فإن الأسعار الاستهلاكية تبدو في منحى تصاعدي.
فقد سجل مستوى تضخم الأسعار بين آذار (مارس) وشباط (فبراير) انخفاضاً وقدره 0،6%، إلا أن مستوى تضخم الأسعار بين آذار (مارس) 2009 و2008 سجل ارتفاعاً بنسبة 2،1%، لكن مسيرة الأسعار كانت بوتيرة أعلى في العام 2008، ويمكن الاستدلال عليها من خلال الرقم القياسي لأسعار الاستهلاك في لبنان في نهاية كانون الأول (ديسمبر) الماضي إذ سجل ارتفاعاً بنسبة 5.5% بالمقارنة مع ذات الشهر من العام 2007.
ويشير مدير حماية المستهلك فؤاد فليفل، الى أنه نتيجة جولات المراقبة في الأسواق، تبين أن بعض السلع الغذائية قد انخفضت، ولا سيما الزيوت النباتية والحليب ومشتقاته وبعض أصناف المعلبات. وقال لـالمستقبل، بينما حافظت مواد وسلع استهلاكية أساسية على أسعارها وارتفع بعضها كاللحوم خاصة بعد عيد الفصح، أما الفروج ومشتقاته فبقيت أسعاره مستقرة التزاماً بقرار التسعير الصادر عن وزارة الاقتصاد والتجارة.
ورأى أن ارتفاع الأسعار ناتج عن تطورات صرف العملات الأجنبية تجاه الليرة في فترة سابقة، ومن ثم عاد الهدوء نسبياً الى سعر صرف العملات، ما أدى الى تراجع أسعار بعض المواد الغذائية.
لكن جمعية حماية المستهلك، التي تصدر مؤشراً لأسعار نحو 160 سلعة بالنسبة للمستهلك، تشير في تقريرها عن الفصل الأول من العام الجاري، الى أنه ما زال هناك ارتفاعات كبيرة في أسعار الخضر والفاكهة وانخفاض قليل في الحليب ومشتقاته وفي المواد المنزلية، وانخفاض في السوق السوداء في الاتصالات، اذ ولأول مرة منذ ثلاث سنوات ونصف، تباع الخطوط بأسعارها الشرعية. أما المعدل العام فيشير الى ارتفاع في المؤشر بلغ %3,35. وبذلك يكون المعدل التراكمي للارتفاعات في السلع الأساسية قد بلغ، منذ تموز 2006، نسبة 48.38 % . وهكذا يظهر أن الأسعار عادت لترتفع في لبنان بعد انخفاض طفيف في الفصل الرابع 2008.
وتفرد الجمعية في تقريرها الأخير حيزاً واسعاً لمسألة أسعار الدواء، بعد قرار نقابة الصيادلة بوقف الحسومات عليه، وتقول إن الدواء في لبنان يشكل نحو 27% من تكلفة الصحة ويعتبر بين الأغلى في العالم، نتيجة لآليات تسعير وتسجيل وضعت خدمة لاحتكارات محددة على حساب المستهلكين.
وتؤشر الجمعية الى نظام المحاصصة الطائفي في اللعبة الاقتصادية اللبنانية، وتقول إن المستهلك يدفع ثمناً مرتفعاً لتلك السياسات الموضوعة.
في العام 2004 أقر مجلس النواب اللبناني مشروع القانون المتعلق بالتمثيل التجاري (المعروف بإلغاء الوكالات الحصرية)، إلا أنه نتيجة اتفاقية الشراكة الأوروبية التي وقعها لبنان نهاية العام 2002، ونتيجة للمفاوضات اللبنانية للانضمام الى منظمة التجارة العالمية، فقد خرجت توصية من وزارة الاقتصاد تقول بضرورة إبقاء الوكالات الحصرية كـسلاح تفاوضي على أن يبدأ تطبيق إلغاء الوكالات في بداية العام 2008، إلا أن الواقع السياسي كان يجري بخلاف النوايا الاقتصادية، ولم يطبق القانون المذكور الهادف الى إحداث منافسة في السوق المحلية، وبالتالي خفض الأسعار من جرائها. وفي هذا الإطار تجدر الإشارة الى أنه ليس هناك وكالة حصرية لكل أنواع السلع.
بيد أن فليفل يرى أن المرسوم 3339 الصادر في 6/4/1992 قد ألغى الوكالات الحصرية عن المواد الغذائية ومواد التنظيف، وبالتالي يحق لأي تاجر استيراد أي سلعة غذائية أو تنظيف وإدخالها الى الأسواق اللبنانية.
وإذ يبدو لبنان مثل جزيرة في بحر أزمة المال العالمية، ففي العالم بأجمعه تسبب الركود بتراجع الأسعار منعاً للكساد، إلا أنه في لبنان يمكن تلمس العامل السعري المرتفع بالمقارنة مع بلدان الجوار. وقال متسوقون يقفون أمام واجهات متاجر لبيع الألبسة الأسعار ما زالت ناراً (مرتفعة)، المعاشات لا تكاد تكفي الى منتصف الشهر. ويردفون بالقول إن الخفوض التي تطرأ على السلع الاستهلاكية، لا تشجع كثيراً.
إلا أن الباحث في الشأن الاقتصادي محمد شمس الدين، يرى أن لبنان سيتأثر بأزمة المال العالمية، بعد انتهاء موسم الانتخابات النيابية وانتهاء موسم السياحة صيفاً، وقال هناك اليوم انتخابات وتنفق فيها أموال هائلة ولذلك لا يستشعر اللبنانيون بالأزمة بسبب الإنفاق الانتخابي، وبالتالي فإن الأسعار لا تزال محافظة على مستواها.
وتوقع البدء بتراجع الأسعار الاستهلاكية بدءاً من تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، بعد أن تكون الصورة قد اتضحت، وقال إن التحويلات أو العائدات اللبنانية من الخارج تقدر بـ6 مليارات دولار، لكن ما إن بدأت الأزمة في أيلول (سبتمبر) الماضي، فإن العمال اللبنانيين في الخارج بدأوا يعيدون حساباتهم خوفاً من المستقبل، وعليه نتوقع أن تتراجع هذه العائدات بحدود مليار أو ملياري دولار، وهي بالطبع ستؤثر كثيراً في حركة السوق المحلية، إذ سيتراجع الطلب وبالتالي يمكن ساعتها الحديث عن خفض للأسعار. ويشكو سائقو السيارات العمومية من تكاليف المعيشة، ويقولون إنهم يدفعون ما يحصلونه من الركاب لأصحاب محطات الوقود. ويراوح سعر صفيحة البنزين 98 و95 أوكتان بين 26000 و27000 ليرة. وتبلغ نسبة الرسوم والضريبة على القيمة المضافة المحصلة من بيع الصفيحة نحو 55%.
وقال زهير برو رئيس جمعية المستهلك إن لبنان يستورد ما نسبته 94% من حاجاته السلعية الاستهلاكية، ولا شك أن وجود وكالات حصرية من شأنه أن يزيد الأسعار بما لا تقل نسبته عن 30% مقارنة بالأسعار في الدول الأخرى، بسبب عامل الاحتكار الذي تلعبه الوكالات لجهة الاستيراد.
ولفت الى أن هناك محاصصة طائفية في بعض القطاعات الاقتصادية أيضاً والأمثلة والشواهد على ذلك كثيرة، وهذه تتسبب أيضاً برفع الأسعار، ولا يمكن الوصول الى خفض للأسعار في ظل المحاصصة الطائفية والوكالات الحصرية، مضيفاً أن هناك حماية سياسية لبعض القطاعات الاقتصادية.
وأوضح أن برو، أن هناك سلعاً من المفترض أن تصل فيها الأرباح الى ما نسبته 30%، إلا أن الأرباح في لبنان قد تصل الى 70%، بسبب هذين الأمرين، لا وفقاً لقانون العرض والطلب الذي يشكل العامل السعري الأساسي للسلع. مستدلاً على ذلك بالحلقة المفقودة ما بين الاقتصاد العالمي في ظل الأزمة الراهنة وما بين الاقتصاد المحلي، الذي يسير بعكس مناخ هبوط الأسعار أقله في المرحلة الراهنة.
ويقول الباحث شمس الدين على الرغم من أن الاقتصاد اللبناني نظام حر، بيد أن هناك نوعاً من الاحتكار والامتيازات، فمثلاً إذا أراد مستورد صغير استيراد مواد غذائية، فحتماً سيواجه بتجار ومستوردين من الحجم الكبير، وهو ما سيدفعه الى منافسة غير متكافئة مع هؤلاء، وبالتالي إما سيخسر إذا استمر أو سيضطر الى الهروب. وقال إن المنافسة غير المشروعة وغير المكتافئة تشكلان عملياً جزءاً من موضوع ارتفاع الأسعار في لبنان.
إلا أن فليفل يؤكد أن مديرية حماية المستهلك، تعمل على ضبط حركة الأسواق من خلال التشديد على عدم رفع الأسعار بشكل يخالف الدورة الطبيعية للانتاج وظروفه وعوامله، وتركز على إعلان الأسعار والالتزام بقرارات التسعير الرسمية.
[ من جهة ثانية، شكلت الأسعار الفلكية للشقق السكنية والأراضي في لبنان في العام 2008، أحجية مالية للموظفين ذوي الدخل المحدود، ساهمت في حلها التسليفات المصرفية. ويتوقع خبراء في القطاع العقاري في لبنان ألا تتراجع الأسعار رغم الأزمة التي يعيشها العالم منذ أيلول (سبتمبر) 2008، بعد نجاح لبنان في الإفلات منها بسبب الإجراءات المتبعة في السياسة الاقتصادية للحكومة، وتترجم بيانات النمو الاقتصادي لجميع قطاعات الانتاج في لبنان بما فيها قطاع العقار، عدم تأثر البلد بالأزمة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.