8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

تحرير عكار من اقتصادات الغزو والظل والاستهلاك

تحتل عكار نسبة مئوية عالية ومخيفة للفقر المدقع والفقر عموماً، ففي الشمال يقطن نحو 20،7 في المئة من سكان لبنان و46 في المئة من الفقراء فقراً مدقعاً و38 في المئة من مجمل السكان الفقراء.
ورغم أن تقرير برنامج الأمم المتحدة الانمائي عن الفقر والنمو واللامساواة في لبنان 2008، لا يأتي بجديد، إلا أن قياس معدلات الفقر في لبنان، هي ليست وليدة الصدفة أو قضاء وقدراً لا يمكن التعامل معه، إنه نتيجة تراكمية بفعل ما مضى من الاستراتيجيات والخطط التنموية التي وضعتها الدولة، والتي خضعت لتعديلات جذرية بحكم الأمر الواقع، ولا سيما خلال الثلاثين سنة من دخول القوات السورية الى لبنان، وتحكمها بمسار لبنان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، إلا أن عكار وهي من ضمن مناطق الأطراف كانت ذات بعد حيوي خاص لتطلع هذا النظام السوري.
ومنذ دولة الاستقلال الأولى في العام 1943 لم تحظَّ عكار بخطط صناعية وتنموية واقتصادية طموحة، شأنها شأن مناطق الأطراف، التي تبعد كثيراً عن المركز العاصمة وثانياً لغياب القطاع الخاص فيها، وقد فعلت الحرب الأهلية فعلها، التي لم تؤثر بالمباشر على هذه المنطقة إلا أنها راكمت من المؤشرات السلبية فيها بفعل التداعيات التي خلفتها هذه الحرب، وكان من أبرزها التحكم السوري المباشر على أرضها، والتي أدت عملياً من تراخي قبضة الدولة الى المستويات الدنيا على كافة الأصعدة، لصالح المفوض السامي الجديد، الذي عمل على تقسيم الأرزاق السياسية والاقتصادية في آن، وذلك من خلال تفكيك أجهزتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لأن المطلوب هو الوصول بهذه المنطقة الى حالة من التلاشي والاضمحلال، طلباً لإبقاء قبضته الحديدية ممسكة بأوضاع الشعب العكاري والتحكم به على السلطة المركزية للدولة اللبنانية.
وقد شجعت الوصاية السورية آنذاك في عكار، ما يعرف باقتصاد الغزو، الذي يقوم على السلب والنهب وبعض المشاريع الصغرى لبعض الفعاليات المرتبطة بها، لا البناء والتعمير، فكان ممنوعاً على الدولة أن تبني أية مشاريع ذات صلة بالتنمية أو برفع المستوى الاقتصادي للمنطقة، فقط كانت تسمح هذه الوصاية بتحصيل الضرائب والرسوم، لا حرصاً على أموال الدولة اللبنانية، ولكن في محاولة لإثارة مشاعر الكراهية تجاه الحكومة اللبنانية. ومن المعروف أن حكومات الرئيس الشهيد رفيق الحريري المتعاقبة، قد عملت على إرساء قاعدة الانماء المتوازن بين جميع المناطق اللبنانية وإنهاضها إقتصادياً، بيد أن الحاكم بأمره ولغاية نيسان (أبريل) 2005، استطاع تسييس لقمة العيش ومشاريع التنمية، وإبقائها رهناً بمصالحه على الأرض، فكانت سياسة قطع يد التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي التي تفعل فعلها، وعليه منع الرئيس الشهيد من دخول عكار، سياسياً واقتصادياً، إلا أن الامداد الحريري لم ينقطع تحت أجنحة الظلام.
ومن جهة ثانية، كان الأمن السوري في عكار يشجع بشكل مباشر اقتصاد الظل القائم على التهريب والتجارة غير المشروعة من سوريا الى لبنان وبالعكس، وهو الأمر الذي يمكن فهمه من خلال رفض ترسيم الحدود وابقائها مفتوحة على مصراعيها، وهو ما يشكل آفة للخزانة اللبنانية، لا يمكن إصلاحها إلا بترسيم الحدود المشتركة.
ولكن الأمن السوري الذي تحكم بهذه المنطقة، كان يدرك أن عليه أن يوجد للعكاريين إقتصاداً استهلاكياً، لا يسمن ولا يغني من السياسة أو الاقتصاد في شيء، ولذلك سمح بأموال المساعدات والتبرعات، لا أموال تستطيع تجذير العكاريين في أرضهم من خلال اقتصاد له جذروه ولا يمكن اقتلاعه عن أية عاصفة أو أزمة.
وهذه الاقتصادات الثلاث التي حاولت الوصاية أن تجعلها من ضمن الأدبيات السياسية للشعب العكاري، هي بلا شك لا ترقى الى طموحات هذا الشعب أو مبادئ ثورة الاستقلال الثانية الأرز، ولا الى فلسفتها في تحصين الوطن ومن ضمنه مناطق الأطراف، وقد يكون اقتراح القانون الذي تقدم به نائب تيار المستقبل في عكار عزام دندشي، لانشاء مجلس خاص لانماء منطقة عكار. هو من الأهمية التي ينبغي التوقف عندها، لا من أجل النقاش السياسي وبمعزل عن المساجلات الساخنة، بل لأن مسيرة الاستقلال يجب أن ينطلق قطارها بتحرير مناطق الفقر بالتنمية، وبات من الغرابة أن تبقى الدولة مترفعة عن رفع الغبن اللاحق بهذه المنطقة منذ دولة الاستقلال الأولى. وبات من الغرابة أيضاً أن يستمر القطاع الخاص العكاري تحت قبعة الاخفاء، كما أنه ينبغي على المجتمع المدني العكاري، الذي ينضح بكفاءات عالية، أن ينظّر لقطاعه الخاص، وأن يبعث برسائل إيجابية عن مؤهلات الاستثمار السياحي والزراعي والصناعي، وعن القدرة في تحقيق نسب من الأرباح العالية، ومواءمة ذلك من خلال مشاريع التعليم في هذه المنطقة.
العكاريون ينتظرون اليوم، أن تلحق مقطورتهم بقاطرة التنمية، من خلال تحويل النمو السلبي لاقتصادها الى ايجابي، ومن ردم هوة الفقر والبطالة فيها، الى مستوى معيشي لائق وفرص عمل أكيدة، لأن في عكار من الغنى الطبيعي ومساحات الأراضي الزراعية والخزان البشري الكبير، ما يؤهلها لتحقيق نمو اقتصادي هائل، يعود فائدة على أبنائها بدرجة أولى وعلى خزينة الدولة بدرجة ثانية.
وإذا كان العكاريون يعتبرون أنهم السياج الواقي للدولة اللبنانية منذ نشأتها، ولاسيما في الشمال والشرق، ويتباهون في انخراط عدد كبير من أبنائهم في الجيش اللبناني لإكمال مسيرة الاستقلال والسيادة.
فإن الحرية هي ملح العكاريين، الذي طال انتظاره مسافات زمنية امتدت عقوداً، وبقي الأمل المدفون في قلوبهم حياً، حتى إذا بزغت شمس هذه الحرية، لم يتوانوا عن الإمساك بها رغم الاحتراق الآتي من خلف الحدود ومن داخلها.
من هنا كانت مبادرة زعيم تيار المستقبل النائب سعد الحريري، باعادة الاعتبار للاقتصاد الاستثماري في عكار، على حساب الاقتصادات التي دمرت عكار ولم تبنيها، فسلسلة المشاريع التي أطلقها العام المنصرم تأتي في هذا السياق التنموي (مؤسسات صحية وتعلمية...)، ولإعادة اللحمة الاقتصادية والسياسية ما بين هذا الجزء والأجزاء الثانية من هذا الوطن. ومن هنا فإن أدبيات ثورة الأرز تقوم على ثورات واقتصادية وثقافية واجتماعية في كل لبنان، لتعزيز السلم والأمن الأهليين، وتكريس الديموقراطية التي لا يمكن للبنان أن يعبش بدونها.
الكل يدرك أن إنقاذ العكاريين من الكبوة الانمائية، يحتاج لجملة مشاريع تبدأ من الإبرة الى تشغيل مطار رينيه معوض في القليعات، وبتمسك الدولة اللبنانية بقاعدة الانماء المتوازن والنهوض الاقتصادي الشامل الذي أرساه اتفاق الطائف، ولكن وقبل كل شيء التوافق وحل النفاثات من العقد السياسية، لجعل عجلة التنمية تدور في عكار وغيرها من المناطق الفقيرة، لإلحاقها بالدورة الاقتصادية.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00