لن يكون سهلا إعطاء رقم دقيق لحجم الخسائر الاقتصادية، التي منيت بها العاصمة الثانية، من جراء الأحداث المذهبية بين جبل محسن وباب التبانة، قبل استتباب الأوضاع الأمنية، إلا أنها من المؤكد خَسارة كبيرة، وبالدرجة الأولى على أهالي المنطقتين، وبالدرجة الثانية على اقتصاد طرابلس والشمال، باعتبار أن باب التبانة هي المخزن الغذائي الرئيسي للشمال، مع وجود أكثر من سوق للخضر والحبوب، ومنطقة للتبادل التجاري بين المناطق الشمالية وكذلك مع المناطق السورية القريبة، ويكفي أن يكون شارع سوريا التجاري، الذي أصبح قبل أيام خطاً للتماس بين المنطقتين، هو من الشوارع التي توجد فيها المحال والمؤسسات التجارية، التي تستقطب ليس فقراء المدينة فحسب بل فقراء الشمال ككل.
أصوات الانفجارات والدمار في المحال التجارية، الذي حدث خلال الأيام الماضية، لا يمكنها حجب الأضواء على المفاعيل الاقتصادية الكارثية التي بدأت ترخي بظلالها على المناطق الأكثر تضرراً من جراء الأحداث الأخيرة.
ويقول خبير إقتصادي شمالي رفض الإفصاح عن اسمه "بعيداً من أي تحليلات أولية مسبقة فلا شيء يحول دون الانحياز الصارم الى أبناء التبانة، وهم الذين تصفهم دراسات وبحوث علمية وعالمية، بأنهم البيئة الأكثر بؤساً في لبنان، من حيث الواقعان الديموغرافي والاقتصادي، وهي علامات ومؤشرات دامغة على استمرار قوة فعل الرابط القائم بين الحرمان المزمن والتطلع الى تحقيق الانماء المتوازن لمنطقة تشكل العصب الحيوي لدورة الحياة الاقتصادية لمدينة طرابلس".
ويشير الى أن هذه الأحداث، قد زادت تفاقم الوضعين المعيشي والاجتماعي، وأعطت مع الأسف صورة قاتمة، فأضحت المناطق المتضررة من هذه المدينة مرتعاً للفقر والبؤس، ويؤكد أن الحذر بات مشروعاً، في حال استمرت الأجواء السياسية الملبدة، إذ لا قيام لأي مشروع إنمائي على أهميتة وحيويته من دون استقرار سياسي وأمني.
ويقول رئيس جمعية تجار طرابلس فواز الحلوة، إن أحداث التبانة وجبل محسن، قد أسهمت بتراجع الحركة التجارية بنسبة 80%، وهي كانت في الأصل متراجعة، وذلك باعتبار أن هذه المنطقة هي منطقة تواصل بين المناطق، كما أن في جبل محسن عددا من المصانع لا يستهان به مخصصة للألسبة والجلديات، وهذه الأحداث بدأت تأكل من رصيد باب التبانة كمخزن إقتصادي مهم بالنسبة لطرابلس.
وإذا كان الانسياب التجاري دون أي عوائق، هو المطلوب، لتسريع العجلة الاقتصادية شمالاً، فإن الأمن يبقى هو الطريق الصالحة، مع وجود 6 آلاف مؤسسة تجارية من أصل 18 ألفا في محافظة الشمال ككل (تشكل 15% من مجمل الحركة التجارية في لبنان)، تحتل منطقة باب التبانة جزءاً لا يستهان به من هذا البنيان الاقتصادي، إلا أن عمليات التهجير التعسفي والأحداث الأمنية، تجعل صمود هذا البنيان أشبه بـ"كيس رمل" يترنح مع كل ضربة أمنية، فخلال هذا العام جولتان داميتان شهدتها الجارتان اللدودتان بعل محسنباب التبانة: أحداث 10 أيار (مايو) و22 حزيران (يونيو) 2008 بعد جولة 23 كانون الثاني (يناير) 2006، إلا أن الأزمة المستجدة يمكن تصنيفها في خانة الامتداد الطبيعي للأحداث التي شهدتها باب التبانة إبان الوصاية السورية على مدى ثلاثين سنة، حيث حولت باب التبانة الى "حماة" ثانية.
ويشير الخبير الاقتصادي مقبل ملك، الى أن باب التبانة، منطقة معروفة تاريخياً بأنها مركز ثقل للتبادل التجاري سواء بين المناطق المجاورة في الشمال، أو مع المناطق السورية القريبة، ولديها نسبة كبيرة من العمالة والتجارة من غير اللبنانيين، وخصوصاً في سوق الخضر.
ويوضح أن في باب التبانة نحو 400 مؤسسة تجارية ناشطة في عمليات التبادل التجاري، والأحداث الأمنية لا تؤثر فقط في عملية التجارة والتسويق، فموقع باب التبانة يجعلها تضعف حركة المرفأ استيراداً وتصديراً، إذ إن الأوتوستراد الدولي يمر بقربها، كما يمنع مرور الشاحنات التجارية الداخلية، فضلاً عن أن موقعها يؤثر في حركة العمال والموظفين الوافدين والخارجين من والى العاصمة الثانية، كما أثرت هذه الأحداث على مدى 3 أو 4 أيام، على الحركتين والاجتماعية مع تواجد الجامعة اللبنانية في منطقة القبة المحاذية، فيما انقطع التواصل بين المناطق التي يعتبر محور التبانةبعل محسن شريان مواصلات بينها.
ولفت الى أن الخسائر المباشرة للأحداث الأخيرة يتوزع أثرها على سوق الخضر وعلى حركة العمالة الممتدة في أسواق التبانة، فضلاً عن المصانع الحرفية الصغيرة، أما الخسائر غير المباشرة، فهي ما يمكن وضعه بخانة الخسائر الفائتة والتي تتصاحب مع الأحداث، أي لا يمكن إنزال أية منتجات في أسواق التبانة أو تصديرها، تأجيل ديون مستحقة تأجيل بعض الدفوعات المالية، فضلاً عن تأثيرها على حركة السياحة الصغيرة التي ينعم بها الشمال، ويلفت الى أن الاستثمارات لا بد من أن تتأثر بهذه الأحداث الأمنية والتي هي في الأساس ضعيفة في الشمال.
حرب مذهبية بمفاعيل إقتصادية
وإذا كان مربط الفرس الاقتصادي هو الأمن والتوافق السياسي، فإن ما شهدته العاصمة الثانية، يؤرق الاقتصاديين الشماليين وتجار طرابلس بالدرجة الأولى، باعتبار أن باب التبانة تشكل تاريخياً السوق الرئيسية للعاصمة الثانية، وفي حين يواجه لبنان بأكمله موجة غلاء عالمية تتمثل في ارتفاع أسعار المشتقات النفطية والحبوب وبعض المواد الاستهلاكية المستوردة باليورو، فإن "بناة" الحروب يدكون هذا السور الاقتصادي والتجاري، بعد أن عملت يد "الوصاية" على مدى 30 عاماً، على إبقاء أوضاع الطائفة العلوية من الناحيتين الانمائية والاقتصادية ضعيفة، بهدف استعمالها كمادة سياسية لتأليب الرأي العام العلوي وإثارة نقمته عند أي مطالبة استقلالية أومحاولة الإندماج مع النسيج اللبناني، فيما يسعى "البناة" بعد "الأوصياء" الى إنهاك باب التبانة وأهلها بالحروب الصغيرة، بنكء الجرح المذهبي، طالما أن أهل التبانة عانوا ما عانوه على أيدي النظام السوري، ففي 19 كانون الأول (ديسمبر) 1986 دهمت القوات السورية منطقة التبانة، وكان من نتيجتها مجزرة ذهب ضحيتها أكثر من 900 قتيل بين شباب ونساء وأطفال وشيوخ.
وعليه، فإن اختيار العاصمة الثانية وتحديداً من باب التبانة وبعل محسن، لا ينبت بالمصادفة على صخر، بل إن البيئة المهمشة والمحرومة من قبل الدولة قديماً واستمرارها الى الآن، تشكل تربة خصبة، لاستغلال الأوضاع الضعيفة للشباب في كلا المنطقتين الذين يعانون البطالة، ويشير أحد وجوه الطائفة العلوية، الى أن هناك من يعمل على استغلال الظروف المعيشية الصعبة للطائفة تحديداً، لدكه في أتون الصراعات السياسية.
باب التبانة والحرمان
ويذكر تقرير "الفقر، النمو، واللامساواة في لبنان"، أن متوسط نصيب الفرد من الاستهلاك أدناه في الشمال، فهو أيضاً الأكبر من حيث اللامساواة بالمقارنة مع المحافظات الأخرى، وعلى الرغم من أن محافظتي جبل لبنان والشمال قد شهدتا انخفاضاً نسبياً في متوسط نصيب الفرد من الانفاق (بالمقارنة مع المتوسط العام) منذ العام 1997 حتى 20042005، ولكن الانخفاض كان أكبر بكثير بالنسبة للشمال من 0.8 الى 0.6 وبالتالي فإن الشمال شهد تدهوراً كبيراً في ترتيبه حسب نصيب الفرد من الانفاق (من المرتبة الثالثة في عام 1997 الى أدنى مستوى في 20042005).
وبحسب دليل أحوال المعيشة، هناك 10 أقضية تزيد نسبة السكان الفقراء جداً فيها عن المعدل الوطني (6.8%)، ومنها طرابلس التي تضم أحياء فقيرة منها: باب التبانة، القبة، الأسواق القديمة، الأحياء الفقيرة في الميناء.
وتعتبر باب التبانة "منطقة محرومة"، بحسب تصنيف برنامج الأمم المتحدة الانمائي، وبأنها منطقة تحت عتبة الفقر، حيث يعيش فيها نحو 55 الف نسمة ضمن كثافة سكانية تصل الى 406 في الهكتار الواحد إضافة الى الأوضاع الاجتماعية والصحية المتردية.
وتقع المنطقة المعروفة بالتبانة شمال شرق طرابلس، وتتكون من عدة أحياء، وقد تعرضت خلال الأحداث الأخيرة الى معارك دامية كان من نتائجها دمار عدد كبير من أحيائها ومبانيها، إضافة الى تهجير نحو 30% من سكانها.
يعيش في منطقة التبانة نحو (55000) نسمة في أحياء شديدة الاكتظاظ ضمن (8800) وحدة سكنية، أي بمعدل سبعة أشخاص في المسكن الواحد، اما الكثافة السكانية فتصل الى حدود (406) نسمة في الهكتار الواحد.
وتعتبر منطقة التبانة بصورة عامة منطقة تجارية (فواكه، خضر، خرضوات، ميكانيك سيارات، مفروشات وغيرها...) ويمكن تقسيم وضع الأسرة في هذه المنطقة الى أسر فقيرة، وأسر فقيرة جداً واخرى مُعدِمة.
وتشكو المنطقة ارتفاع عدد أفراد الأسرة وارتفاع نسبة البطالة، وانتشار حالات الزواج المبكر لدى الفتيات بين سن الـ14 وسن الـ17، وكذلك إحجام الفتيات عن العمل، وكذلك قلّة عدد المدارس وندرة وجود حدائق وملاعب في هذه المناطق كل ذلك أدى الى وضع اجتماعي مترد جداً في هذه المنطقة، التي يمكن اعتبارها بالفعل منطقة منكوبة.
وتشير الدراسة الى أن تردي الوضع الاقتصادي والوضع الاجتماعي، إضافة الى اكتظاظ السكان الذين يعيشون في هذه المنطقة الصغيرة غير المتوافر فيها أي شرط من الشروط الواجب توافرها في منطقة ما (طرق ضيقة، شوارع غير معبدة، أرصفة غير مؤهلة، كون غالبيتها أملاكاً خاصة، تواجد سوق الخضر بالجملة وسوق الخضر بالمفرق وسوق البسطات الشعبية، وعربات الباعة المتجولين وعددهم يتجاوز ألفي عربة، وكذلك محال صيانة السيارات وما ينتج عنها من نفايات صلبة مضرة بالصحة وغير ذلك...) كل ذلك أدى الى وضع صحي سيئ جدا ومترد الى حد خطير.
وأوضحت الدراسة وجود مساكن متصدعة لا تتوافر فيها تمديدات صحية للأبنية المسكونة، وكذلك الامر بالنسبة لشبكة مياه الشفة.
اما بالنسبة للبنية التحتية فأكدت ان الطرق والشوارع غير معبدة والأرصفة غير مؤهلة، فضلاً عن مشاكل تلوث مياه الشفة، وطوفان مياه الامطار على المنازل والمحال التجارية وعدم وجود مراكز صحية كافية وقلة المدارس الرسمية، والانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي.
واقترحت الدراسة عدداً من المشاريع الضرورية لمعالجة الوضع القائم في التبانة وهي: هدم المباني المتصدعة، ترميم واجهات المباني مع استبدال قساطل مياه الشفة، التمديدات الصحية ووصلها بالمجاري العامة، تأهيل الأرصفة القديمة واستحداث أرصفة جديدة، تعبيد الشوارع والطرق، تنظيف ملاجئ الأبنية المغمورة بالمياه، تنظيف العَقارات غير المبنية وإنشاء أسيجة حولها، تكملة إنارة الشوارع، إنشاء حديقة عامة وملعب لكرتي القدم والسلة.
بعل محسن والنمو الاقتصادي
أما في بعل محسن، فإنه على الرغم من أن "اتفاق الطائف" منحهم مقعدين نيابيين في مجلس النواب، في لعبة قوى ضمن النظام، باعتبار أن المفعول الرجعي لهذا النظام كان آنذاك للوصاية السورية، فإن بعل محسن ظلت أوضاعه الاقتصادية والمتردية "سلعة سياسية" تستخدم في تزخيم الحروب المذهبية، وفي تصعير الخد لطرابلس، التي ما فتئت وقوداً للاستقلال.
وتقول عضو المجلس البلدي في طرابلس ورئيسة لجنة شؤون المناطق الشعبية ليلى تيشوري، إن المنطقتين يمثلان شرياناً إقتصادياً لطرابلس والشمال، ومن الطبيعي أن تنعكس الخضات الأمنية على اقتصاد الشمال كُلاً.
وتضيف: هاتان المنطقتان تعملان على التخفيف البطالة المستشرية في كلتا المنطقتين، وهي توفر الرزق لعدد من العمال والأجراء وأصحاب البسطات، وإذا كان جبل محسن يفتقد عدداً من العناصر الاقتصادية، إلا أن فيه نحو 60 مصنعاً للخياطة وصناعة الألبسة تضم ما لا يقل عن 4 آلاف عامل، من جميع المناطق المجاورة، وهي تنتج نحو 150 ألف قطعة ثياب جاهزة، يوزع منها 90% للأسواق المحلية و10% للأسواق الخارجية، وهذه الحرب بالطبع ستكون لها انعكاساتها السلبية على الاقتصاد الوطني لأن الشمال جزء لا ينفصل عنه.
واذ كانت مدينة طرابلس في أدبيات سياسييها هي "أم الفقير" وتختزل صورة "الحرمان" في البلد، ونموذجها بالتحديد منطقة "باب التبانة"، فقد خصها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بمؤتمر دعا إليه سياسيي المدينة وفاعلياتها، لانقاذ طرابلس و"باب التبانة" تحديداً من السياسات التي جعلتها عرضة للفقر، وذلك في التاسع من تشرين أول العام 2002 في السرايا الحكومية، أكد فيه أن المؤتمر يرمي الى "إظهار اهتمام الدولة ممثلة بالحكومة والوزراء والمؤسسات المعنية بهذه المدينة التي نحب".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.