أثرت حرب تموز (يوليو) 2006 في قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في لبنان، وعلى الرغم من مضي سنة على هذه الحرب المشؤومة، فإن آثارها السلبية أبعد من أن تمحى سريعاً رغم الجهد الذي تبذله الحكومة لمداواتها، لأن ذلك يحتاج سنوات لضراوة العدوان الإسرائيلي على البنى التحتية والمؤسسات وشرايين المواصلات، والتي أبعدت الاستثمارات وكذلك السياح عن لبنان، بما يدفع النمو الاقتصادي الوطني الى الانكماش.
وعلى الرغم من ضراوة العدوان، استمر السجال السياسي الحاد، الذي أعقب استشهاد الرئيس رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005، ليعاود عقب عدوان العام 2006، وهو ما أدى عملياً الى توقف حركة النشاط الاقتصادي، إذ إن مفاعيل الأزمة السياسية تعدتها الى الحالة الاقتصادية، فمن الاعتصام الذي شل وسط بيروت، الى توقف إقرار مشاريع القوانين في مجلس النواب بعد إقفال أبوابه، الى أعمال التفجير التي لم ترحم بشراً أو حجراً، في أي من المناطق اللبنانية، وبالذات الأسواق التجارية، وصولاً اليوم الى مرحلة الاستحقاق الرئاسي التي تبدو عند مفترق طرق إما الى الفوضى وإما الى الاستقرار.
وتقوِّم دراسة وضعتها كل من منظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي، مؤخراً، أثر حرب تموز (يوليو) 2006، أن المؤسسات كلها في لبنان، قد تأثرت سلباً نتيجة الصراع، سواء أكانت تقع في منطقة متأثرة بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ انخفض دخل أصحاب هذه المؤسسات وخصوصاً الصغيرة منها، وبدلاً من تطوير أعمالها حولت نظرها الى الداخل وبالتحديد نحو الأسواق المحلية، واضطرت الى صرف عدد كبير من الموظفين.
وتوصي الدراسة الحكومة اتخاذ إجراءات سريعة لتحسين البيئة الكفيلة بتطوير المؤسسات، من خلال استحداث مساحة تعامل فيها المؤسسات على قدم المساواة وترميم البنية التحتية وفقاً للأولويات والابتكار في تأمين المساعدة الفعالة للمتأثرين بالصراع، وذلك يكون بـ:
1استحداث وكالة متخصصة لتأهيل المؤسسات وإنعاشها وتعزيزها، لفترة تمتد على ثلاث سنوات.
2انشاء صندوق لانعاش المؤسسات لمساعدتها على تخطي مشكلاتها المالية، مع منح الأولوية لتلك التي تأثرت مباشرة بالصراع.
3انشاء صندوق للاستخدام باعتباره حلاً مؤسسياً، لمكافحة مشكلة البطالة المتأتية من الصراع، يضاف الى المبادرات السابقة برنامج وطني لتدريب هذه المؤسسات.
وبالعودة الى الاستنتاجات التي خلصت إليها الدراسة، فإن الاقتصاد اللبناني يرتكز على المؤسسات الصغيرة، نظراً الى تركيبة القطاع الخاص، الذي تهيمن عليه هذه المؤسسات البالغ تعدادها نحو 198 ألفاً تقريباً، إلا أن 88% منها يستخدم 5 موظفين أو أقل من هذا العدد.
وهبط العدد الاجمالي للموظفين في المؤسسات الممسوحة وعددها 1009 من2741 موظفاً قبل الصراع في حزيران (يونيو) 2006 الى 2449 خلال الصراع في تموز (يوليو) وآب (أغسطس) 2006.
إلا أن حرب تموز ليست هي العقبة الوحيدة بالنسبة للمشكلات الحادة التي تواجهها هذه المؤسسات، فقد سجلت مشكلة عدم الاستقرار بعد الحرب حدة بلغت 3.32 على 5، أي أنها المشكلة الأكثر حدة على الإطلاق، وتتصدر مشكلة الأمن وانعدام الاستقرار السياسي سائر العقبات للخروج من الأزمات التي تعانيها المؤسسات عقب الصراع مع معدل بلغ 4.33 أما ثاني مسألة ملحة فهي عدم استقرار الاقتصاد الكلي، الذي سجل أيضاً معدلاً عالياً بلغ 4.18.
ويتبين من خلال المسح، أن المؤسسات اللبنانية جميعها قد تأثرت سلباً بالصراع، ويشير توزع العينة الممسوحة الى أن 70.5% من المؤسسات تقع في المناطق المتأثرة بشكل غير مباشر في حين أن 29.5% منها تقع في المناطق المتأثرة بشكل مباشر، وتظهر نتائج المسح أن 12.8% من العينة قد تضرر بشكل مباشر مع بروز أعلى معدل في المناطق المتأثرة مباشرة كسهل البقاع وجنوب لبنان والضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت وينقسم الضرر الذي لحق بالمؤسسات المتضررة بشكل مباشر الى ثلاث فئات. فقد تبين أن 61% من الأضرار أصابت المباني وتعرضت 33% من المؤسسات لخسارة وسائل الانتاج (الآليات والتجهيزات... إلخ) هذا وبلغت 71% من المؤسسات عن تضرر المخزون (المواد الخام والمنتجات الجاهزة للبيع، إلخ...). والأمر سيان بالنسبة الى باقي المؤسسات التي لم تتضرر بشكل مباشر، فقد عانت أيضاً من خسائر غير مباشرة بسبب الضرر الذي لحق بالبنية التحتية وتقلص فرص التسويق وتراجع أيام العمل إلخ...
وتشير نتائج المسح على سبيل المثال الى أن المؤسسات قد أقفلت بالكامل وتوقفت عن العمل لأكثر من 50% (كحد متوسط) من فترة الحرب ((14.8 يوماً من أصل 28 يوم عمل خلال الحرب) وقد عملت بشكل جزئي خلال الأيام الباقية، ما نتج عنه خسائر في العائدات.
ويقول التقرير "إن المقارنة بين المرجع الأساسي، أي مسح العام 2004، والمسح الذي غطى فترة ما بعد الصراع تشير الى هبوط في دخل أسر الرياديين كافة حيث تكبد الرياديون في المؤسسات الصغيرة والصغرى، خسارة أكبر في الدخل، من الرياديين في المؤسسات المتوسطة الحجم. وتشير النتائج الى أن الصراع قد أثر سلباً في دخل أصحاب المؤسسات، فقد شهدت فئة أعلى دخل هبوطاً قوياً إذ انخفضت حصتها من 22.7% عام 2004 الى 5.9% فقط، كذلك تغيرت حصة فئتي أدنى دخل من 22.6% الى 44.3%، إن الهبوط الهائل لفئات الدخل الأعلى والزيادة الملحوظة في فئات الدخل الأدنى يشيران الى أن الدخل الاجمالي قد انخفض بشدة. نتيجة أخرى مثيرة للاهتمام تتعلق بانخفاض الدخل في كافة المناطق اللبنانية (سواء كان تأثرها مباشراً أو غير مباشر). الى ذلك تجدر الاشارة الى نتيجة تتعلق باختلاف اثر الدخل عند مقارنته بين المؤسسات من مختلف الأحجام. فالأثر السلبي الأكثر حدة (لجهة تراجع الدخل) قد أصاب المؤسسات الصغيرة والصغرى أكثر مما أصاب المؤسسات المتوسطة الحجم".
ويشير التقرير الى أن اعتماد المؤسسات على "العملاء من الأسر" و"السوق المحلية" قد ازداد حدة في مرحلة ما بعد الصراع في لبنان، ما معناه أن المؤسسات بدل أن توجه أنظارها الى الخارج، تجبر على التركيز على الداخل لتحصيل العائدات من مبيعاتها وتوسيع سوقها في المستقبل. لكن بالنظر الى حجم السوق المحلية الصغير جداً، لا ينذر ذلك بالخير على المدى الطويل بالنسبة للمؤسسات. وأظهرت نتائج مسح العام 2004 أن الأسر تشكل 93.8% من سوق المؤسسات. وقد ارتفع هذا الرقم الى 98.1% في مرحلة ما بعد الصراع، ما يشير الى أن قاعدة سائر العملاء (معاملات ما بين المؤسسات، صفقات المؤسسة مع الحكومة، الصادرات إلخ...) قد انخفضت، تبرز أيضاً مسألة دقيقة أخرى تتعلق بتنامي اعتماد المؤسسات على السوق المحلية، فقد تبين أن 96.3% من المؤسسات كانت تتعامل في الأسواق المحلية عام 2004 وقد ارتفعت هذه النسبة الى 99% في مرحلة ما بعد الصراع.
وحول تأثر العمالة يقول التقرير "أثر الصراع على الاستخدام في المؤسسات بشكل كبير. فبالرغم من أن الاستخدام يتعافى ببطء، لا يتوقع له أن يحقق مستويات ما قبل الصراع قريباً. بلغت النتيجة التراكمية للاستخدام في المؤسسات، في العينة الممسوحة، 2741 في شهر حزيران (يونيو) 2006 (قبل الصراع مباشرة) وقد هبطت إلى 2449 خلال الصراع، مسجلة بذلك انخفاضاً بنسبة 11%. وقد كان تراجع الاستخدام من النتائج الملحوظة في فئة المؤسسات التي تضم من 5 إلى 49 عاملاً. من المتوقّع لمثل هذه المؤسسات أن تسارع إلى صرف عمالها على أثر حالة من عدم الاستقرار. وتراجع الاستخدام ببطء أكبر في المؤسسات الصغيرة والصغرى (فئة المؤسسات التي توظف أقل من 5 عمال) حيث مالت المؤسسات إلى إبقاء موظفيها بالرغم من الأوضاع الرديئة المترتبة عن الصراع. يتزايد التحليل غرابة عندما يُقارن مع نتائج الدخل الفائت بين مختلف فئات المؤسسات. فبالرغم من أن خسارة الدخل والعائدات في المؤسسات الصغيرة والصغرى كانت أكبر حجماً من خسارة المؤسسات المتوسطة الحجم، مالت هذه المؤسسات إلى إبقاء موظفيها. وتشير نتائج المسح أيضاً إلى استرجاع بطيء وتدريجي لمستويات الاستخدام. لكن يبدو أن استعادة مستويات الاستخدام التي كانت سائدة قبل الصراع لن تتحقق قبل سنوات".
ويقول التقرير "تعتبر المؤسسات أن الصراع قد زاد من حدة المشاكل التي تطرحها بيئة الأعمال. فقد أشارت إلى ذلك عند الإجابة عن سؤال حول أثر الصراع السلبي في نواحٍ مختلفة من بيئة الأعمال. وهي تعتقد أن الصراع قد فاقم عدم الاستقرار الذي يؤثر سلباً على أدائها. كان الضرر الذي لحق بالبنية التحتية عائقاً بوجه إنتاج وتوريد وتسويق السلع والخدمات. وأصبح الوصول إلى المهارات وخدمات الدعم مشكلة كبيرة بسبب النزوح الكثيف للسكان والاضطراب الذي خلّفه الصراع. كما ازدادت العوائق التي تسبّبها الحواجز القانونية والتنظيمية (الضرائب والإجراءات الحكومية والموافقات الإدارية). وأصبحت الشؤون المالية للمؤسسات أكثر إرهاقاً ومشقّة ما بعد الصراع".
ويستخلص التقرير أن البنية التحتية والشؤون المالية "مصدر قلق حالياً للرياديين كافة. فالكهرباء والمياه من أبرز مصادر القلق في مجال البنية التحتية. إن الكهرباء أو التزويد بالطاقة أمر ضروري لتسيير الأعمال. إذ إن عمليات الإنتاج الممكننة أو إدارة المرافق كالفنادق والمطاعم تكاد تكون مستحيلة من دون كهرباء. وربما لم تكن الطرقات بحالة ممتازة قبل الصراع لكنها كانت قابلة للاستخدام. لقد هدّم القصف الجوي الجسور فبات العديد من الخطوط الرئيسية والطرقات الداخلية غير قابل للعبور. فعانت حركة السكان والبضائع كثيراً ما فاقم عبء المشاكل التي تعاني منها المؤسسات أصلاً. وتحولت المسائل المالية كالوصول إلى الاعتمادات (عن طريق المصارف والمورّدين) إلى مشكلة حادة بسبب أضرار الحرب ومشاكل التدفق النقدي نتيجة إغلاق المؤسسات خلال الصراع كما وبسبب بيئة الأعمال السيئة".
ويستنتج أن قطاع المؤسسات الصغية المرن متفائل لجهة نموه وتوقعاته المستقبلية. ولعلّ هذا التفاؤل هو من أكثر النتائج التي توصّل إليها المسح غرابة.
طلب إلى المؤسسات أن تجيب عن أسئلة مختلفة حول أدائها في الفترات الثلاث التالية: قبل الصراع، خلال الصراع، وما بعد الصراع. واعتبر سيناريو ما قبل الصراع مرجعاً أساسياً للمقارنة. عبّرت المؤسسات عن تأثير الصراع سلباً على أدائها. فقد قالت إن رقم مبيعاتها قد انخفض وتدهور سداد الديون المستحقة لها وتراجعت الطلبيات المحلية وطلبيات التصدير كما ارتفعت تكاليف المدخلات. غير أنها متفائلة لجهة نمو أعمالها ما بعد الصراع. وتتوقع أن تحقّق خلال العام الجاري 90% من رقم المبيعات الذي كانت تحققه قبل الصراع. كما تتوقع أن ترتفع أسعار المنتجات بالتزامن مع ارتفاع أسعار المدخلات".
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.