إنه فيلم "الحدود" الذي يكرر نفسه مرة ثانية، المرة الأولى صيف العام 2005، والمرة الثانية 20 أيار (مايو) الماضي، بداية المواجهة مع "عصابة العبسي"، حتى اليوم، أي منذ 31 يوماً. في المرة الأولى وضع لبنان داخل قمقم ومنع عنه "الأوكسيجين" التجاري والاقتصادي عند المعابر الحدودية الخمسة التي تربط بين البلدين الجارين سوريا ولبنان، أما في هذه المرة فإن منافذ الشمال الحدودية، هي المعنية الأولى بعملية إقفال السلطات السورية لحدودها مع لبنان لدوافع وصفتها بـ"الأمنية".
إذاً، اختلفت الدوافع في كلتا الحالتين واختلفت معها أيضاً الوقائع، إلا أن القاسم المشترك بينهما وقوع الاقتصاد اللبناني في شرك الخسارة، وإن بطريقة أقل وغير مباشرة في المرة الثانية، نظراً لتحول جميع الشاحنات التجارية نحو نقطة المصنع الحدودية.
* * *
يعيش الشمال واقعاً اقتصادياً صعباً، بفعل أعمال القنص لـ"عصابة العبسي" على أوتوستراد المنية ـ العبدة الذي يربط العاصمة الثانية بعكار وصولاً الى الحدود مع سوريا، وهو الأمر الذي عطل الحركتين المدنية والتجارية في هذه البقعة من لبنان، إلا أن شظايا هذا التعطيل الذي أنتج هذا الواقع الاقتصادي الصعب، انسحب الى المناطق اللبنانية كافة، لتندفع الحركة التجارية التي تعتمد النقل الخارجي البري وسيلة للتصدير أو الاستيراد، باتجاه معبر المصنع، وهو ما تمثل في زيادة ملحوظة في تكاليف النقل فضلاً عن الاختناق المروري في هذا المعبر الحدودي الخارجي الوحيد الآن، والسؤال هل يستطيع التجار اللبنانيون تحمل المزيد من الخسارة؟...ولمصلحة من يبقى الاقتصاد "كبش محرقة" في كل حرب وسجال سياسي داخلي وخارجي؟.
ويقول نقيب مالكي الشاحنات في الشمال أحمد الخير، إنه بفعل الإقفال الحدودي شمالاً زادت تكاليف النقل بنسبة لا تقل عن 50%، وهو ما جعل وسطاء النقل أيضاً يرفعون تكلفة الاستيراد والتصدير بنسب مماثلة، وبالطبع سينعكس ذلك على المستهلكين، وفي المحصلة فإن ذلك يشكل عبئاً إضافياً على الاقتصاد اللبناني، فمثلاً تكلفة النقل بين شكا ومدينة حلب كانت 500 دولار، أصبحت اليوم 750 دولاراً، فالمسافة بين المدينتين هي 300 كيلومتر، وهي ستزيد حكماً عندما ستسلك الشاحنات طريق ضهر البيدر.
ويضيف قائلاً "قبل الأزمة الحالية، كانت الشاحنات السورية التي تنقل مادة الفوسفات الى شركة سلعاتا الكيماوية وشركات الترابة في شكا، تعد بنحو 140 شاحنة يومياً، وكانت هذه عندما تنتهي من مهمتها، تنقل من لبنان الى الخارج بضائع وطلبيات بأجور أقل بكثير من مثيلاتها اللبنانية، فضلاً عن دخول شاحنات سورية فارغة الى الشمال، للعمل أيضاً في السوق اللبنانية في عمليتي الاستيراد والتصدير، أما اليوم فإن الدور مقتصر على الشاحنات اللبنانية، التي لا يمكنها العمل بنفس الأجور، أولاً لأن تكلفة المحروقات في سوريا أرخص بكثير من لبنان وثانياً لأن اليد العاملة السورية أرخص.
وبحسب مصادر في وزارة النقل اللبنانية، فإن حركة المرور على الحدود اللبنانية ـ السورية، تشهد يومياً في كلا الاتجاهين (سوريا ـ لبنان)، في الأحوال العادية: 400 سيارة وحافلة (سياحية وعمومية) في منطقة القاع، 800 سيارة (سياحية وعمومية) وحافلة وشاحنة يومياً في منطقة العبودية، 900 سيارة (سياحية وعمومية) وحافلة وشاحنة يومياً في منطقة العريضة، 4700 سيارة (سياحية وعمومية) وحافلة وشاحنة يومياً في منطقة المصنع، ولا يوجد احصاء للسيارات والحافلات والشاحنات في منطقة البقيعة.
وذكرت مصادر في وزارة النقل لـ"المستقبل"، ان حركة عبور الشاحنات المبردة وغير المبردة عند المصنع، تضاعفت بعد إقفال المعبرين الحدودين شمالاً، مع بدء المعارك في مخيم نهر البارد (20 الشهر الماضي)، وقد أثر ذلك سلباً وبطريقة غير مباشرة في الاقتصاد الوطني، لأن الحرب الجديدة تزامنت مع بداية الموسم الزراعي في الشمال.
والضرر يقع بداية على أصحاب هذه المواسم وشركات التصدير الزراعية، التي ارتفعت تكاليف النقل لديها وخصوصاً البضاعة المصدرة من الشمال، مع المسافة التي زادت، فمثلاً تكلفة الشحن الى مكان معين كانت 800 دولار، زادت بسبب الأحداث مئة دولار، وتدخلت وزارة النقل لمنع "النفخ في الفاتورة".
وتلفت هذه المصادر الى أن حركة العبور عند المصنع تضاعفت بالاتجاهين (من لبنان الى الخارج ومن الخارج الى لبنان)، فيومياً قبل الحرب كانت تعبر من لبنان الى الخارج نحو 110 شاحنات مبردة وغير مبردة، وقد أصبحت الآن 191 شاحنة، وفي المقابل كانت تدخل لبنان نحو 136 شاحنة قبل الحرب، فأصبحت الآن 232 شاحنة يومياً، ففي 20 أيار (مايو) الماضي غادرت 7 شاحنات لبنانية الحدود اللبنانيةالسورية شمالاً، لتقفل بعدها السلطات السورية الحدود ابتداءً من تاريخه لـ"دواع أمنية"، ولتنتقل الحركة برمتها الى المصنع.
وتشير مصادر وزارة النقل، الى أنه إزاء هذه الحال المستجدة عند نقطة عبور المصنع، فإن ما يمكن القيام به ليس أكثر من تفعيل الإجراءات الجمركية بشكل يسهل حركة المرور في الاتجاهين، وتقول "إن المديرية العامة للجمارك اللبنانية المعنية الأساس في هذا الموضوع، رفعت ساعات العمل، التي كانت قبل حرب البارد من الثامنة صباحاً الى الثانية بعد الظهر، لتصبح من السابعة صباحاً الى السابعة مساء، لتخليص التصاريح والرخص المطلوبة، وبالتالي تسهيل الحركة المرورية وجعلها أكثر انسياباً، يضاف الى ذلك جعل أيام الآحاد مثل بقية الأيام الأخرى، بعد أن كان يوم الأحد مخصصاً فقط للشاحنات المنتقلة من لبنان الى الخارج".
أما الجانب السلبي الآخر لأزمة المعابر الحدودية شمالاً، فهو وقف العمل بالمشاريع الخاصة بتأهيل المراكز الحدودية، بعد حصول الوزارة على الاعتمادات المالية المخصصة لهذا الغرض، ووقف مشروع سكك الحديد بين لبنان وسوريا شمالاً، الذي ينتظر صفارة الانطلاق للتنفيذ الفعلي، بعد تذليل الجزء الأكبر من العقبات بين الجانبين اللبناني والسوري، الى حين توقف المعارك في مخيم نهر البارد، وعودة الأمن والاستقرار الى البلد.
يشار الى أن المشكلات الحدودية بين البلدين الجارين سواء كانت بسبب لبناني أو سوري، مرت دائماً بمراحل مختلفة منذ إنشاء دولة لبنان الكبير في العام 1920، فحل التعاون والتنسيق في مراحل والخلاف والقطيعة وحتى العداء في مراحل أخرى، وكثيراً ما استخدمت الحدود لتهريب الأسلحة والرجال (وهذه موضوع شكوى رفعها لبنان مؤخراً الى مجلس الجامعة العربية) بالإضافة طبعاً الى عمليات التهريب المتعلقة بالبضائع، وكما يقول البعض إن الظروف الاقليمية والدولية لها دور أساسي في ذلك.
فمنذ العام 1990 باشر المسؤولون اللبنانيون والسوريون بعقد لقاءات ومحادثات، توصلوا خلالها الى توقيع 112 اتفاقية ومعاهدة وبروتوكولاً مشتركاً ومذكرات تفاهم وتعاون ارتكز معظمها على معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق الموقعة في 30 أيار 1991، منها ثلاث اتفاقات تتعلق بالمعابر على الحدود، وهي: 1 ـ "تنظيم انتقال الأشخاص ونقل البضائع ـ 16/9/1993"، 2 ـ "انشاء مكاتب حدودية مشتركة ـ 12/1/1997"، 3 ـ "التعاون الاداري المتبادل في القضايا الجمركية ـ 14/1/2004". يضاف اليها بروتوكولات ومذكرات تفاهم تتعلق بأوضاع الشاحنات على الحدود اللبنانية ـ السورية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.