على الرغم من اتساع المرافق الصحية العامة والخاصة في لبنان، وعلى الرغم من المشاريع التي تدعو الى الحد من الانفاق الصحي وضبط الفاتورة الصحية، فإن لبنان يشكو من ارتفاع فاتورته الصحية ومن فوضى هذا القطاع، فالمعالجات ممكنة بالمشاريع وبالقوانين، إلا أننا تعودنا في هذا البلد، أن المعالجات لا تمشي إلا بقرار سياسي، وتبدو الصحة أيضاً هي قرار سياسي، اذ أنها من القضايا الأساسية في البلدان النامية والمتقدمة.
وبما أن الحكومة الحالية أخذت على عاتقها، التخفيف من أعباء الأزمة الاجتماعية والمعيشية ولجم التردي الاقتصادي، فقد أكدت في أولويات بيانها الوزاري الذي ناقشه النواب ونالت الثقة على أساسه، على العناية الخاصة التي ستوليها في الشأن الصحي، وأشارت في بيانها الى "العمل على تطوير النظام الصحي بهدف تأمين مستوى عالٍ من الخدمات الطبية عبر تفعيل مؤسسات الدولة الاستشفائية وتنظيم قطاعي الاستشفاء والدواء، والتنسيق ما بين المؤسسات الضامنة لترشيد الانفاق الصحي والعمل على تطوير هذا القطاع من كل جوانبه العلمية والمهنية والتأمينية وتطوير نظام المعلوماتية في هذا المجال".
وقد وعت وزارة الصحة مسألة ترشيد الانفاق الصحي باعتبارها واحدة من المعضلات، التي تتطلب جهداً استثنائياً، فوضعت مجموعة من المشاريع ، لكن معظمها اصطدم بحائط الفوضى الذي يلف القطاع الصحي برمته، وبعضها الآخر وضع في الأدراج بانتظار القرار السياسي، وكان وزير الصحة السابق سليمان فرنجية قد طلب في مذكرة في العام 1998، تحديد مواقع الانفاق والسياسات المعتمدة والنتائج المحققة وصولاً الى الامكانات الواقعية لترشيد الانفاق وضبط الفاتورة الصحية.
وبالقاء نظرة على الفاتورة الصحية في لبنان، فإنها تشكل ما نسبته 12.3% من حجم الدخل القومي، نحو 2.5 ملياري دولار سنوياً، وبذلك يحتل لبنان المرتبة الثانية في العالم في الانفاق الصحي نسبة الى دخله القومي، ويتحمل المواطن اللبناني نحو 70% من التكلفة الصحية في حين تتحمل الدولة 18% منها.
وببساطة متناهية الكل متفق على أن لبنان ينفق أموالاً أكثر من اللازم، مقابل نتائج محققة ليست بحجم الانفاق، "كالذي يدفع ايجار قصر ويسكن في كوخ"، وتبلغ تكلفة الفرد في لبنان وبمعدل وسطي نحو 500 دولار سنوياً، أما التكلفة الدوائية فهي 138 دولاراً في السنة مقابل 40 دولاراً يدفعها مواطنو دول مجلس التعاون الخليجي و9 دولارات في سوريا، علماً أن في لبنان نحو 157 مستشفىً خاصاً وهي تملك أكثر من 12 ألف سرير، يضاف ما لدى القطاع الحكومي من مستشفيات وأسرة، عدا عن المستوصفات والمراكز الصحية، وهذا إن دل فإن يدل على فوضى القطاع وأسباب ارتفاع الفاتورة الصحية في لبنان.
ويحدد مدير وحدة التخطيط في وزارة الصحة الدكتور بهيج عربيد، المسائل المرتبطة بعملية الانفاق والتي يبلغها تعدادها الست:
1سياسة التأمين الصحي المتبعة في لبنان الآن، تشكل حالياً "المزراب" الطبيعي للهدر وللانفاق غير المبرر أو المجدي، أي تعدد المؤسسات الضامنة، وهي اذا ما اذا ما أحسن تفعيلها يمكنها تحقيق وفر كبير، وكانت هناك طروحات كثيرة في هذا المجال وكان آخرها توحيد آليات الرقابة الطبية، إلا أنه ما زال حبراً على ورق.
2السياسة الاستشفائية، اذ لا بد من تنظيم مسألتي العرض والطلب والتوازن بينهما، فهناك خلل في الميزان لمصلحة العرض الذي هو أكثر من الطلب بكثير، فالنظام اللبناني الذي يقوم على حرية المبادرة الفردية وتشجيعها، أدى الى زحمة في السوق الصحية بين المستشفيات الكبيرة، فمن المعروف أن الآلة تخلق زبائنها، وبمعنى آخر يجب وضع حدٍ في استيراد المعدات التكنولوجية الطبية إلا في الحالات الضرورية جداً، فالاستعمال غير المبرر للتكنولوجيا الطبية يسهم في نفخ الفاتورة الصحية.
واذا كانت الخريطة الصحية هي السبيل والطريقة المثالية لتنظيم السوق الصحية انطلاقاً من الحاجة وترشيد الاستثمار في هذا القطاع، فإن "تطبيق الخريطة الصحية مع بعض التوجيات الحديثة في كل ما يرتبط بهذا القطاع، يخفض الفاتورة الصحية نحو 30% أي نحو 600 مليون دولار سنوياً"، إلا أن أي خريطة لن تستطيع تنظيم أي قطاع دون قانون، ومشروع قانون الخريطة ما زال أمام مجلس شورى الدولة لوضع ملاحظات عليه.
كما أنه في مجال السياسة الاستشفائية من اعادة النظر ببعض الخدمات الصحية التي ترتبط بالانفاق العالي، ومنها:
أالتوجه نحو بدائل الاستشفاء أي الاستشفاء النهاري والمنزلي، الذي بامكانه خفض الفاتورة الصحية نحو 30%، ففي الولايات المتحدة مثلاً 60% من الخدمات الاستشفائية عبارة عن استشفاء ليوم واحد، واستطاعت ألمانيا تحقيق وفر يعادل 20 مليون مارك جراء الاعتماد على الاستشفاء المنزلي، وللأسف ففي لبنان لا تعتمد هذه السياسة، إن موازنة وزارة الصحة بلغت في العام 2003 نحو 230 مليار ليرة، ذهب 190 ملياراً منها الى القطاع الصحي، لقاء التعاقد على 2000 سرير، ويكلف السرير في المستشفيات الخاصة نحو 210 دولارات، وتبلغ تكلفة الاستشفاء 40% من اجمالي الانفاق الصحي في البلد، يتكفل المواطن بدفع 35% منها من جيبه الخاص، و40% من اللبنانيين بمن فيهم المشمولون بالضمان وخدمات الوزارة، لا يستطيعون الدخول الى المستشفيات بسبب الضيق المادي، كما أن 90% من اجمالي الخدمات الاستشفائية و100% من التكنولوجيا الطبية المتطورة والاستشفاء الطويل الأمد تعود للقطاع الخاص.
تأمين الشراكة بين المستشفيات والقطاعات الصحية الحكومية وخصوصاً في المحافظة الواحدة في مسألة الخدمات العامة، المطبخ والمغسل وغير ذلك، فمثلاً استطاعت فرنسا تحقيق وفر نسبته 35% جراء توحيد المغسل مثلاً، وهذه الأمور البسيطة لا تحتاج الى قوانين وانما الى قرارات.
بجودة الخدمات الطبية، فهناك اتفاق على أن الطب الجيد هو الطب الأقل تكلفة، ومن هنا يجب التوجه بالسياسات الصحية الى هذا النوع من الطب، سواء من خلال برامج التأهيل المستمر لكل العاملين في القطاعات الصحية، أم من خلال برامج الاعتماد والتصنيف وغيرها.
3يشكل الدواء ما نسبته 35% من الفاتورة الاستشفائية، وقد كانت هناك مقترحات بأن تعتمد وزارة الصحة والصناديق الضامنة، الأدوية النظامية والمعلبة خصيصاً للمستشفيات والتي بامكانها خفض تكلفة الدواء نحو 40%، وإن استخدام هذه الأدوية النظامية يشكل أساساً لتقدير تكلفة الدواء، وفي المراكز الصحية يجب أن تعتمد الأدوية الأساسية.
4السياسة الرعائية، فالرعاية تشكل مدخلاً رئيسياً وأساسياً في ترشيد وخفض وضبط الانفاق الصحي، والمطلوب هو اعادة صياغة سيسة صحية تتوجه للانسان المعافى، لضمان سلامته وتحسين نوعية حياته، ويوجد عشرات البرامج الرعائية المرتبطة بالحياة مباشرة، وهذه البرامج تؤثر في المؤشرات الصحية العامة، فمثلاً برنامج التحصين الشامل استطاع أن يقضي على شلل الأطفال والى خفض الاصابة بالحصبة والتي كانت تشكل سبباً جوهرياً للوفاة، اذ كان يبلغ عدد المصابين بها سنوياً يتجاوز الـ3 آلاف طفل، أما اليوم فهي نادرة.
فمثلاً برنامج الأدوية المزمنة الذي تنفذه جمعيةWMCI، يوفر على المريض سنوياً بحدود 60 دولاراً، أي ما معدله 18 مليون دولار سنوياً مع وجود 300 ألف مستفيد، اذن، فالمطلوب تعزيز هذا البرنامج، وتوسيع اطاره، كذلك فإن برامج الكشف المبكر لبعض الأمراض من شأنه خفض الفاتورة الصحية، لكن المطلوب في المقابل ارتباط مفهوم التأمين الصحيمه هذه البرامج، فالغريب مثلاً أن الضمان لا يغطي اللقاحات.
5يجب الارتقاء بالجسم الطبي، ويجب وضع حدٍ للفوضى في التعليم الطبي فمثلاً هناك 7 جامعات تدرس في لبنان الطب، يجب التشدد في فحوص الكولوكيوم، ويجب ايجاد علاقة للجسم الطبي بالمؤسسة الضامنة حفاظاً على مصلحة المريض.
6لا بد من تعديل دور وهيكلية وزارة الصحة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.