يبدو رجب طيب أردوغان الذي حقّق حزبه انتصارا تاريخيا في الإنتخابات الأخيرة، بما تجاوز حدود تركيا، شخصيتين في شخصية واحدة ورجل واحد. اي أردوغان الذي انتصر في انتخابات الأوّل من تشرين الثاني - نوفمبر؟
هناك اوّلا الرئيس أردوغان العاقل والعصري الذي عرف كيف يساهم في ازدهار تركيا ويضع الأسس لنهضة بعيدة المدى نقلت البلد الى قوة اقتصادية في مستوى سويسرا وكوريا الجنوبية. بات الإقتصاد التركي في المرتبة الثامنة عشرة عالميا ويزيد حجمه على 1,5 تريليون دولار، فيما معدّل دخل لفرد نحو عشرين الف دولار سنويا. هناك مطار يبنى في اسطنبول سيكون من اكبر مطارات العالم!
وهناك أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية الذي يصرّ على تعديل الدستور وعلى اقامة نظام رئاسي في تركيا. اكّد هذه النيّة قبل ايام قليلة في خلال احتفال بالذكرى الـ77 لوفاة اتاتورك.
قبل كلّ شيء، لا بدّ من الإعتراف بان أردوغان استطاع في الأشهر الخمسة الأخيرة، التي مضت على الإنتخابات النيابية التي عجز فيها حزبه عن الإتيان بأكثرية نيابية، ان يكون مناورا من الدرجة الأولى. عرف كيف يستخدم كلّ الثغرات لدى خصومه لإستعادة المبادرة والوصول الى ما وصل اليه. صار في استطاعة حزب أردوغان تشكيل حكومة منفردا. لم تعد حاجة لا الى الأكراد ولا لأيّ حزب آخر في اليمين او اليسار. عرف أردوغان كيف يثير المشاعر الوطنية التركية مستعيدا ثلاثة ملايين صوت كان خسرها في انتخابات حزيران - يونيو الماضي لصلحة الحزب الكردي الصاعد، اي حزب الشعوب الديموقراطية وحزب الحركة القومية اليميني. لعب أردوغان ورقتين. كانت الورقة الأولى تقوم على تخويف الأكراد من مواجهة محتملة ذات طابع شامل معهم ووضعهم بالتالي في سلّة واحدة مع حزب العمال الكردي المتهّم بممارسات ارهابية.
اما الورقة الثانية، فكانت ورقة المزايدة على اليمين في مجال مواجهة التهديدات الأمنية. كانت النتيجة تحوّل حزب الحركة القومية الى الخاسر الأكبر في الإنتخابات.
تبيّن ان أردوغان مناور من الدرجة الأولى. يثير فوز حزبه ارتياحا وقلقا في الوقت ذاته. يتمثّل مصدر الإرتياح في ان الرئيس التركي اتخذ منذ البداية موقفا واضحا من ثورة الشعب السوري. استقبلت بلاده عشرات آلاف اللاجئين السوريين الهاربين من ارهاب النظام والميليشيات المذهبية المدعومة من ايران ومن القصف الروسي الذي يستهدف حاليا المدنيين اوّلا.
كانت تركيا في كلّ وقت هدفا لأعداء الشعب السوري وثورته. كان بشّار الأسد يفضّل من دون شكّ بقاء الوضع السياسي غير مستقرّ في تركيا ومتابعة التنسيق مع ايران وروسيا بهدف الهاء أردوغان بمشاكل داخلية مختلفة بدءا بالإرهاب وانتهاء باختلاق كلّ نوع من انواع الأزمات. ولذلك كان ملفتا استعادة العملة التركية بعضا من عافيتها فور بروز دلائل على ان حزب العدالة سيحقّق انتصارا كبيرا.
ثمّة فهم عميق لدى أردوغان وكبار رجالات حزبه، بمن فيهم رئيس الوزراء احمد داود اوغلو، لطبيعة النظام السوري. فتركيا عملت في مرحلة معيّنة على تعويم هذا النظام قبل ان تكتشف انّه غير قابل للتعويم وانّ هناك مافيا عائلية - طائفية تصرّ على حكم سوريا بالحديد والنار ونهب ثرواتها.
هذا هو الجانب الإيجابي في انتصار أردوغان الذي تكمن مشكلته مع السوريين في التقصير في تقديم المساعدات المطلوبة للقوى المعتدلة وفضّل في احيان كثيرة دعم قوى متطرّفة. كان دعم مثل هذه القوى المتطرّفة بدل وضع تركيا امكاناتها في تصرّف المعتدلين مثل الجيش الحرّ من بين الأسباب التي عطّلت تحقيق الشعب السوري انتصارا سريعا على النظام. كان مثل هذا الإنتصار كفيلا بحماية سوريا ووحدة اراضيها. فالثابت ان ايّ تأخير في تحقيق مثل هذا الإنتصار يشكّل مساهمة في تفتيت سوريا خدمة للمشروع التوسعي الإيراني الذي بات يراهن حاليا على تقسيم البلد، بدعم روسي او من دونه.
هل تتغيّر السياسة السورية لأردوغان في المستقبل القريب، خصوصا بعد انكشاف دور ما بقي من النظام السوري وداعميه في استخدام الورقة الكردية وورقة الإرهاب ضدّ تركيا؟ هل تتمكن تركيا من اقامة منطقة آمنة في الشمال السوري بما يؤمن حماية للسوريين الهاربين من البراميل المتفجّرة؟ سيكون النجاح في اقامة المنطقة الآمنة الإمتحان الأبرز امام أردوغان في الأسابيع القليلة المقبلة.
اي تركيا سنرى في عهد أردوغان الجديد المنتصر على خصومه؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يفرض نفسه بحدّة. لا شكّ ان الموضوع الكردي سيطرح نفسه بقوّة. هل من حلول لدى الرئيس التركي ام سيلجأ الى الخيار السهل، وهو خيار مغرٍ في الوقت ذاته، اي الى خيار القوّة كما فعل اخيرا، فكانت ترجمة ذلك صعود شعبية حزبه؟
كانت هناك حاجة اقليمية الى انتصار لـحزب العدالة والتنمية في تركيا وذلك كي لا تضيع تركيا وتغرق في فوضى داخلية. لكنّ ثمّة حاجة الى عقلانية أردوغان التي توظّف قدرات تركيا في خدمة الإستقرار الإقليمي.
فوق ذلك كلّه، هناك حاجة الى تفهّم أردوغان لواقع اليم في قطاع غزّة المحاصر. ليس بالشعارات والسفن التي تضمّ متطوعين يمكن فكّ الحصار الظالم الذي يتعرّض له الغزّاويون. فكّ الحصار يكون بدفع حماس الى التخلي عن وهم الإمارة الإسلامية التي اقامتها في القطاع والتي لا تخدم سوى اسرائيل من جهة وتشكل تهديدا للأمن المصري من جهة اخرى.
نعم، كانت هناك حاجة الى انتصار لحزب أردوغان من اجل استعادة تركيا استقرارها السياسي، وحتّى الإقتصادي، في ظل الخلل الذي يعاني منه التوازن الإقليمي. هذا الخلل عائد الى الهجمة الإيرانية التي تستثمر في الغرائز المذهبية، خصوصا في احدى اهمّ دول المنطقة، اي في العراق. كذلك، الخلل عائد الى الغياب الأميركي الذي سمح لدولة مريضة مثل روسيا ولرئيسها فلاديمير بوتين بلعب دور شرطي المنطقة انطلاقا من سوريا!
ايّ شخصية من شخصيتي أردوغان ستبرز، او ستنتصر، في مرحلة ما بعد الإنتخابات؟ أردوغان العاقل الذي ساهم في بناء تركيا الحديثة انطلاق من ارث اتاتورك... ام أردوغان الذي اندفع الى تعديل الدستور واقامة نظام رئاسي على قياسه؟
في النهاية، صحيح ان الإقتصاد التركي قوي، لكنّ هذا الإقتصاد يعاني من مشاكل يعبّر عن جانب منها هبوط التصدير بنسبة 8,6 في الأشهر العشرة الأولى من العام الجاري. هناك ازمات داخل المجتمع التركي على رأسها الإنقسام بين العلمانيين والمتدينين، فضلا عن قضية الأكراد طبعا. نصف الشعب مع حزب العدالة والتنمية ونصفه الآخر ضدّه. هل يستطيع الرجل ان يكون عامل توحيد بين الأتراك ويتعلّم من الأخطاء التي قادت الى نتائج انتخابات السابع من حزيران - يونيو الماضي؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.