هناك رمزية لكلّ حدث يمني وذلك منذ بدأت المحاولة الانقلابية الحوثية، التي تقف خلفها طهران، لوضع اليد على البلد تمهيداً لإيجاد موطئ قدم لإيران في شبه الجزيرة العربية. موطئ القدم هذا ليس من أي نوع كان، خصوصاً أنّ لليمن حدوداً مع المملكة العربية السعودية يبلغ طولها 1470 كيلومتراً، فضلاً عن ان هذه الحدود في غاية التعقيد، كما أنها تتميز في جانبيها بوجود كثافة سكّانية ذات نسبة عالية.
في هذا السياق، سياق التطوّرات اليمنية، يحمل مضيق باب المندب رمزية كبيرة. جاء تحرير قوات التحالف لباب المندب ذي الأهمّية الاستراتيجية الكبيرة، ليؤكّد أنّ لا مفرّ من اندحار الحوثيين الذين باتوا يعرفون بتسمية أنصار الله. تعني التسمية، برمزيتها أيضاً، أنّهم نسخة يمنية عن حزب الله في لبنان.
تسلّمت القوات الشرعية في اليمن المنطقة التي تتحكم بباب المندب. كان ذلك انجازاً كبيراً توّج بوجود نائب رئيس الجمهورية رئيس الوزراء خالد بحاح. هذا دليل على وجود شخصيات يمنية بارزة مستعدّة لتحمّل مسؤولياتها على الأرض اليمنية.
في غضون ثلاثة أشهر تراجع المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة، وهو مشروع يشمل اليمن، تراجعاً كبيراً. لا شكّ أن نقطة التحوّل كانت عدن. استعادت قوات التحالف عاصمة الجنوب في تموز/يوليو الماضي بعدما وجّهت ضربة عسكرية قوية للحوثيين. كانت تلك الضربة الأولى الحقيقية للحوثيين الذين سبق وان خاضوا ست حروب مع القوات المسلّحة اليمنية بين 2004 وبداية 2010.
كان لمعركة عدن رمزيتها أيضاً. استطاعت قوات التحالف تنفيذ عملية عسكرية متقنة لا تستطيع تنفيذها سوى الجيوش المحترفة التي خضعت لتدريبات معيّنة، فضلاً عن امتلاكها للأسلحة الحديثة التي تلائم أرض المعركة. كانت استعادة عدن عملية مدروسة، على الرغم من صعوبتها وعلى الرغم من استفادة انصار الله من دعم القوّات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح. من دون هذه القوات المنتشرة في كلّ انحاء الجمهورية اليمنية، لم يكن في استطاعة الحوثيين الالتفاف على تعز والتوجه جنوباً وصولاً إلى عدن. حصل ذلك في وقت كانت قوات الحوثيين سارعت إلى الوصول إلى باب المندب عن طريق آخر هو الطريق البحري الممتد من الحديدة إلى المضيق الإستراتيجي مروراً بميناء آخر هو المخا.
بعد تحرير عدن، بدأت مرحلة جديدة في اليمن. بعد تحرير باب المندب، يتبيّن أن لهذه المرحلة الجديدة أفقاً يتجاوز استعادة الجنوب والوسط ومأرب. الهدف النهائي هو صنعاء. لن تتمكن إيران من إقامة دولة أو دويلة في اليمن، بغض النظر عمّا إذا كان البلد سيبقى موحّداً أم لا. بكلام أوضح، لن يكون اليمن منطلقاً لتهديد السعودية خصوصاً والأمن الخليجي عموماً.
كان ملفتاً، عندما احتلّ انصار الله باب المندب صدور تصريحات إيرانية فحواها أن إيران صارت تتحكّم باهم مضيقين في المنطقة، هما هرمز وباب المندب. أي أنّها باتت تسيطر أيضاً على مدخل البحر الأحمر وبالتالي على قناة السويس. لجأت إيران إلى كلّ ما من شأنه تأكيد أنّها القوة الإقليمية المهيمنة في المنطقة وان لا عودة الى خلف بعد الآن. هناك امر واقع فرضه الحوثيون الذين باتوا يسيطرون على صنعاء ويتصرّفون من منطلق انّهم الحكام الجدد لليمن.
ليس صدفة انّ طهران وقّعت مع وفد من الانقلابيين سلسلة من الاتفاقات شملت رحلات جوية بين صنعاء والعاصمة الإيرانية في وقت لا وجود لعلاقات تجارية أو تبادل يذكر، من أي نوع كان، بين اليمن وايران. كانت تلك الاتفاقات ترمز الى قيام سلطة جديدة في اليمن، خصوصاً منذ دخل انصار الله صنعاء ووضعوا يدهم على كلّ المؤسسات الرسمية اليمنية. كان ذلك في الواحد والعشرين من ايلول/سبتمبر 2014. وقتذاك، وجّه زعيم أنصار الله عبدالملك الحوثي خطاباً في مناسبة عيد الأضحى جاء فيه: نجدّد تهنئتنا لشعبنا اليمني العظيم بانتصار ثورته المباركة في الحادي والعشرين من سبتمبر في مواجهة طغيان الفاسدين والفضل في ذلك لله عزّ وجلّ ودماء الشهداء والجرحى. أراد الحوثي القول إن ثورة 21 سبتمبر صححت التاريخ، وحلّت مكان ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، التي اطاحت الحكم الإمامي واقامت الجمهورية. في الخطاب نفسه، وعد الحوثي اليمنيين بـالدولة العادلة مستعيداً خطاب حسن نصرالله الأمين العام لـحزب الله الذي يتحدّث فيه بين وقت آخر عن الدولة العادلة في لبنان متجاهلاً دستور البلد وقوانينه وطبيعة تركيبته وموازين القوى فيه والعلاقات القديمة والمعقّدة بين الطوائف والمذاهب.
بين ما حصل في عدن ثم في مأرب واخيراً في باب المندب، من دون تجاهل تعز طبعاً، يمكن القول إن المشروع الإيراني في اليمن يتراجع بشكل مستمرّ. يعود ذلك إلى عاملين؛ الأوّل أنّه وُجد من يتصدى لهذا المشروع خلافاً لما كانت تعتقده إيران. أمّا العامل الآخر، فهو مرتبط باليمنيين انفسهم الذين يرفضون الدولة العادلة التي يريد عبدالملك الحوثي فرضها عليهم، على الرغم من أنّه لا يمتلك أي مشروع سياسي أو اقتصادي من أي نوع كان للبلد باستثناء إلحاقه بإيران... ونشر البؤس في كلّ مكان.
لا يمتلك الحوثي غير الشعارات لبناء دولة عادلة في بلد يعاني من الفقر والتخلّف والجوع ولكنّه بلد يمتلك حضارة قديمة تجعل المواطنين فيه يفرّقون بين الحقّ والباطل، بين الشعارات والحقيقة. عفواً، كان الحوثي والذين خلفه طبعاً، يراهنون على الفراغ وعلى أن ليس هناك من سيتصدّى للمشروع الإيراني يوماً.
لم يكن في وارد إيران أنّ عاصفة الحزم ستنطلق. لم يكن وارداً لديها انّ هذه العاصفة ستستمرّ كلّ هذا الوقت وانّ لا مجال لوقفها. كانت الحسابات الإيرانية، ولا تزال، بعيدة كلّ البعد عن الواقع. لذلك تراجع حجم المشروع الإيراني في اليمن إلى دويلة في شمال الشمال، في حين ان هناك مشروعاً اكثر واقعية يقوم على الاعتراف بالقرار 2216 الصادر عن مجلس الأمن من دون مواربة وتذاكٍ من اي نوع وتحوّل انصار الله الى حزب سياسي طبيعي بعيداً عن مقولة الشعب والجيش واللجان الشعبية التي تستخدم لتغطية الانقلاب الحوثي.
فشل الانقلاب الحوثي في اليمن. عدد رموز فشله لا يحصى. كان باب المندب آخر هذه الرموز. كم سيكلّف اليمن رفض انصار الله الاعتراف بالفشل والهزيمة. كم سيكلّف ذلك صنعاء المدينة العريقة واهلها الطيبين الذين يفتحون قلوبهم وبيوتهم للضيف كما لا يفتحها سوى قليلين من العرب...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.