لم يكن فوز الباجي القائد السبسي في الإنتخابات الرئاسية التونسية انتصارا لرجل في الثامنة والثمانين من العمر على مرشح كان مفترضا أن يمثّل طموحات التونسيين الذين قاموا بـثورة الياسمين. كان انتصار الباجي انتصارا لتونس ولمؤسسات تونس. كان انتصارا للحبيب بورقيبة قبل أي شيء آخر. كان انتصارا لرجل، رحل من عالمنا، بنى المؤسسات التونسية التي صمدت في وجه هجمة الإخوان المسلمين الممثّلين بـحركة النهضة الذين ارادوا القضاء على كلّ ما هو حضاري وتقدّمي في تونس.
حلّ الباجي قائد السبسي مكان شخص الحبيب بورقيبة الذي ترشّح في وجه الإخوان المسلمين الذين حاولوا التسلل إلى رئاسة الجمهورية عبر سياسي إسمه المنصف المرزوقي يروّج لنفسه بأنّه ليبيرالي.
لم يخجل المرزوقي حين كان رئيسا انتقاليا من أن يكون ناطقا باسم النهضة ومن اصدار كتاب سمّاه الكتاب الأسود وردت فيه اسماء لكل من شارك في برامج للتلفزيون التونسي.
كان الهدف من الكتاب الإساءة إلى تلك الشخصيات بحجة أنّها كانت تروّج لزين العابدين بن علي في مقابل مكافآت. لم يكن ذلك صحيحا في أي شكل. كلّ ما هناك أنّه كانت هناك شخصيات من مشارب مختلفة وقفت دائما مع تونس ومع تجربتها، وليس بالضرورة مع عهد زين العابدين بن علي بحسناته وسيئاته.
صمدت تونس. ما صمد كان المؤسسات التونسية التي رفضت التخلّف بكلّ انواعه. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان التونسيون صوّتوا بأكثرية واضحة لرجل يقترب من التسعين من العمر يمثّل بين ما يمثّل إرث الحبيب بورقيبة.
سعى الحبيب بورقيبة إلى بناء دولة عصرية في تونس. كان رجلا استثنائيا بكل المقاييس. لم يكن فاسدا بأيّ شكل. لم يكن رافضا لكلّ ما يأتي من الغرب. كان يؤمن بالمساواة بين المرأة والرجل. كان يحاول تثقيف التونسيين وتطوير الذوق العام. كانت أغاني فيروز وأبيات من شعر الأخطل الصغير حاضرة صباح كلّ يوم في الإذاعة التونسية. سعى أوّلا وأخيرا إلى المحافظة على مستوى التعليم في المدارس.
كان بورقيبة سياسيا فذا يمتلك شجاعة كبيرة. دعا العرب إلى القبول بقرار التقسيم قبل اندلاع حرب العام . كثيرون خوّنوه وقتذاك قبل أن يكتشفوا أنّه كان رجلا استثنائيا بكلّ المقاييس وليس فقط بمقياس الإصلاحات الإجتماعية وبناء مؤسسات لدولة حديثة.
لا شكّ أن السنوات الأخيرة من عهد بورقيبة كانت مليئة بالأخطاء، بما في ذلك تحولّه إلى رئيس لمدى الحياة. لكنّ التحوّل الذي حصل في السابع من تشرين الثاني ـ نوفمبر بقيادة زين العابدين بن علي ورفيقين له من الضباط، هما الحبيب عمّار وعبد الحميد الشيخ، أنقذ تونس. سرعان ما تنكّر زين العابدين للذين ساعدوه في الوصول إلى السلطة، بمن في ذلك عمار والشيخ. سرعان ما تحوّل إلى ديكتاتور يشبه، إلى حدّ ما، بقية الديكتاتوريين العرب. من حسنات زين العابدي أنّه لم يكن دمويا.
هذا واقع لا بدّ من الإعتراف به. ولكن ما لا بدّ من تذكّره أيضا أن تونس بقيت مختلفة. بقيت مختلفة مثلا عن ليبيا حيث عمل معمّر القذّافي على تدمير كلّ مؤسسات الدولة. هذا ما لم يفعله زين العابدين الذي لم يستطع التخلّص من عقلية الشرطي بدل أن يكون رئيسا لكلّ التونسيين وأن يؤسس لعملية سياسية تؤدي إلى نظام يكون فيه تداول سلمي للسلطة عبر صندوق الإقتراع.
سقط بن علي ضحيّة عقلية الشرطي التي تتحكّم به أوّلا ثم ضحية زوجته الثانية التي أنجبت له طفلا ذكرا. وهذا السقوط، الذي رافقته محاولات لجعل السيّدة الأولى ليلى بن على الرجل الأوّل في البلد، سهّل انتصار ثورة الياسمين التي حاول الإخوان المسلمون خطفها.
لم ينجح الإخوان في عملية الخطف الأولى. جاءت الإنتخابات النيابية الأخيرة لتؤكّد فشل عملية الخطف الثانية. كرّس إنتخاب الباجي رئيسا الفشل الإخواني. تشكّل الإنتخابات الرئاسية نجاحا لتونس ولحيوية شعبها. إنّه نجاح للنساء قبل الرجال. ارادت المرأة التونسية الدفاع عن المكاسب التي تحقّقت في عهد بورقيبة، وإلى حدّ ما في عهد بن علي.
ولكن ما صمد في نهاية المطاف هو مؤسسات الدولة التونسية التي أسّسها بورقيبة وحافظ عليها بن علي، وإن بشكل ما. هذه المؤسسات هي التي ساعدت في نجاح ثورة الياسمين التي كانت شرارة الربيع العربي الذي يبدو أنّه لم ينجح إلّا في تونس. فمؤسسة الجيش بقيت محايدة عندما تعلّق الأمر بالدفاع عن رئيس في مواجهة مع شعبه.
هناك أمر في غاية الأهمّية يمكن استخلاصه من التجربة التونسية. هذا الأمر هو أنّ عهدي بورقيبة وبن علي، بين وبداية ، لم يقضيا على مؤسسات الدولة ولا على النسيج الإجتماعي في البلد. لذلك، بقي هناك أمل بتطوير الحياة السياسية في تونس.
لم يحصل ذلك في ليبيا ولم يحصل ذلك في سوريا ولا في العراق، في حين لا يزال هناك بعض من أمل في اعادة الحياة إلى مصر، فيما يظلّ اليمن حالة خاصة، خصوصا بعد بروز ما يمكن بتسميته العامل الحوثي.
هناك عصابات مسلّحة في تونس. هناك أيضا مجموعات متطرّفة. هناك أزمة اقتصادية عميقة. لكنّ هناك أيضا الشعب التونسي الذي يرفض الإستسلام للخيارات السهلة والشعارات الطنانة. هذا عائد أوّلا وأخيرا إلى وجود طبقة متوسطة كبيرة تعرف أن لديها مصلحة في المحافظة على مؤسسات الدولة.
هناك تحديات كبيرة ستواجه تونس. بين هذه التحديات الإرهاب الذي مصدره ليبيا وبعض المناطق التونسية أيضا.
لكنّ الثابت، أقلّه إلى الآن، أن هناك من لا يزال يؤمن بأن المحافظة على مؤسسات الدولة خير ضمان للتونسيين، حتّى لو كانت الكلفة إنتخاب رئيس يقترب من التسعين. فالدولة هي الضمانة الوحيدة للجميع وسقوط الدولة يعني السقوط في التجربة الليبية. هذا ما حاول التونسيون تفاديه عندما توجّهوا إلى صناديق الإقتراع للتصويت للباجي قائد السبسي. إنّه ليس مجرد رئيس عجوز في بلد يحتاج أوّل ما يحتاج إلى الشباب. إنّه ضمانة لا أكثر ولا أقل في بلد يعرف شعبه أنّ لا مستقبل له إذا تنكر لإرث الحبيب بورقيبة.
صوّت التونسيون للحبيب بورقيبة قبل أن يصوّتوا لباجي قائد السبسي!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.