1 أيار 2020 | 09:43

أخبار لبنان

حول الثقب الأسود في المال العام

حول الثقب الأسود في المال العام

مصطفى علوش - الجمهورية


‏ «الغدر لمن حكم صبح الأمان بقشيش

والندل لما احتكم يقدر ولا يعفيش

والحر مهما انحكم للندل ما يوطيش»

أحمد فؤاد نجم ‏

حتى هذه اللحظة، لا يمكن التأكيد على أسباب الحملة المستجدة على حاكم مصرف لبنان، فقد كان ‏لسنوات محط كيل الثناء العام الدولي والمحلي، على جدارته وإدائه المميز، في وضع تعجز عنه ‏كل الهندسات المالية في تحقيق توازن، ولو موقت، في قدرات العملة الوطنية على تحمّل الضغط ‏المستمر عليها. سيناريوهات كثيرة طُرحت حول خلفيات هذا الهجوم، على الحاكم والمصرف، ‏ولكن يمكن أن تتلخّص في ما يلي: أولاً، إيجاد كبش محرقة لتوجيه الأنظار عن مكمن العطب ‏الرئيسي في إدارة الوضع المالي في البلد، وبالتالي تحييد السلطة عن تحمّل اللوم. ‏

ثانياً، الانتقام من الحاكم من قِبَل «حزب الله»، لعدم تعاونه معه في التحايل على العقوبات ‏المفروضة على المنظومة المالية للحزب. هذا مع العلم، أنّه لو فعل وتجاوز العقوبات، لكان ‏الوضع المالي الحالي أسوأ بكثير مما هو عليه.‏

‏ ثالثاً، لقد أصبح واضحاً حساسية رئيس التيار الوطني الحر، وولي العهد، من أي شخصية ‏مارونية قد تشكّل نوعاً من المنافسة على موقع رئاسة الجمهورية. ومن هنا، فإنّ إقصاء الحاكم ‏سيضعه في موقع الاتهام أو في عالم النسيان. هذا بالإضافة إلى سعيه لوضع أحد أتباعه في كل ‏موقع ممكن من المواقع الأساسية في لبنان.‏

لكن ركاكة وضعف أسس الهجوم الذي أُوكل به رئيس الحكومة على الحاكم، استدرج أركان ‏الحكم إلى ملعب لا أحد يتقن اللعب على أرضه مثل رياض سلامة ذاته. ما فعله بردّه التقني ‏القانوني، وإن كان كأنّه يتحدث بلغة أهل المريخ بالنسبة للعامة، لكنها حسبما يبدو دفعت كل من ‏هاجمه إلى ابتلاع ألسنتهم، إما لجهلهم بكيفية الرد، أو لأنّهم اكتشفوا أنّهم وقعوا بمقلب لا قدرة لهم ‏على الخروج منه.‏

لا أريد هنا أن أمدح حاكم المصرف ولا أن أذمّه، فهذا ليس بيت القصيد. لكن، لا الحاكم ولا ‏المصرف كيانان مستقلان عن الواقع التعيس للمؤسسات القائمة في لبنان. فالمصرف يضع ‏سياساته بناءً على الوقائع المتمثلة بسياسة الدولة، ويقوم بالهندسات المالية لتغطية الحاجات ‏الناجمة عن قرارات الدولة. وأي محاسبة هنا للحاكم يجب أن تستند، إما إلى ملف جنائي يتعلق ‏بسوء الأمانة، أو إلى مخالفة واضحة لسياسة الدولة، أو إلى تخريب مقصود، يصل إلى حد ‏الخيانة العظمى، أو إلى عدم كفاءة في التصرّف والإدارة. وكلها أمور لا يمكن عندها التصرّف ‏بخفة وتدوير الزوايا، بل على السلطة أن تكف يده وإجراء تحقيق خبير بخصوص تلك ‏الاحتمالات بدل إلقاء اتهامات غامضة، والتراجع عنه بصورة مثيرة للسخرية، أو السكوت الغبي ‏كما يحدث حتى الآن. ‏

ما يجب أن تُقدم عليه السلطة هو الذهاب إلى حلول مجدية، وإن كانت غير ممكنة، بناءً على ‏واقع سيطرة المرشدية على القرارات السياسية والمالية اليوم. الحل يبدأ بالسياسة أولاً، أي بإعلان ‏التبرؤ من سياسات المحاور التي أدخلت لبنان في عمق الصراع الذي دفع ثمنه منذ سنة 1969. ‏وهو أيضاً الذي أدخل لبنان في حروب أهلية شبه مستمرة، منعت إمكانية استثمار، كان سيكون ‏مجدياً لتفادي ما وصلنا إليه اليوم من سقوط مدوٍ. يعني بالترجمة العملية، أن يعلن «حزب الله» ‏تبرؤهِ من الصراعات القائمة في المنطقة، ووضع كل إمكانياته وخبراته العسكرية تحت أمرة ‏الرئيس القوي، حامي المقاومة وراعيها. ومن ثم التعاون مع صندوق النقد الدولي بناءً على ما ‏هو ممكن وما هو نافع لوقف التدهور المالي. من ثم القيام بحملة دبلوماسية لتصليح العلاقات مع ‏من يمكنه أن يفيد لبنان ويساعده في الصمود. وبالتالي تغليب منطق المصلحة الوطنية الفعلية ‏على لغة العزة والكرامة، واتهام كل من له رأي بذلك بالداعشية أو بالعمالة للعدو الإسرائيلي، فما ‏المقصود هنا هو ليس الحياد في مواجهة إسرائيل، بل بوضع كل مشاريع المقاومة تحت سلطة ‏الدولة. وإن كان هناك من يريد أن يطرح تغيير نِسب تقاسم السلطة المذهبية في هذه اللحظة، فما ‏عليه إلّا طرح الأمر بشكل صريح، ليتمّ بحثه من دون خسائر لا طائل لها.‏

النظام القائم منذ الاستقلال يحمل في طيّاته بذور فساد، لكونه استند إلى مبدأ الشراكة الوطنية، ‏وهي التي انتهت بشركة مساهمة، مجلس إدارتها زعماء الإقطاع السياسي الطائفي، والذين انبتوا ‏من حولهم تشعبات واسعة لارتزاق العامة على حساب المال العام. وهذه الشركة هي التي منعت ‏أي إصلاح سابقاً، ولا تزال حتى اليوم تقف بوجه كل إصلاح مفيد لبنية النظام السياسي ‏والإداري والاقتصادي. يعني أنّه ليس من الممكن وقف الهدر من دون طرد عشرات الآلاف من ‏الموظفين بالإسم، الذين لا جدوى من وجودهم. لكن ذلك سيؤدي حتماً إلى طرح مسألة من اغتنى ‏إلى حد التخمة من المال العام على خلفية الشراكة الوطنية، أي تلك التي أعطت الفرصة لرموز ‏مجلس إدارة الشركة الوطنية للغرف من رأسمالها تحت شعار السلم الأهلي وحقوق الطوائف. ولا ‏حاجة للبحث كثيرا، فمظاهر الثروة فاقعة عليهم ولا مجال لإخفائها، مع العلم بأنّ الظاهر منها ما ‏هو إلّا قمة جبل الجليد.‏

يأتي هنا موضوع المزاريب الأساسية، وهي المرتبطة بشكل واضح بتحالف الشركة الوطنية مع ‏فساد الهدر، بدءاً بالكهرباء، مروراً بالمعابر المفتوحة للمقاومة، حيث يتمّ التهرّب الجمركي ‏والضريبي تحت شعار المقاومة. ثم تأتي قضية الفساد الوطني المتشابك بين الطمع والخيانة ‏الوطنية، وهو ما يتعلق اليوم بتهريب العملات الصعبة والمازوت والبنزين إلى سورية، وهو ‏مزراب مفتوح ساهم بالتأكيد بتدهور سعر صرف الليرة في الأشهر الماضية. وعندما يحدث كل ‏ذلك، وإن بقيت هناك حاجة لتعاون من قبل المودعين بشكل مدروس بالهيركات، فأظن أنّ هؤلاء ‏سيقبلون من دون احتجاج، أما عدا ذلك فما يحدث لن يعدو كونه سرقة جديدة لمصلحة الشركة ‏الوطنية التي تحاول الاستمرار في الحياة. ومن يريد البحث عن الثقب الأسود، فما عليه إلّا ‏الاستنارة بما سبق، ولا ينفع البحث عن ثقب في المصارف، أو المصرف المركزي، فهي فقط ‏جزء من كل.‏

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

1 أيار 2020 09:43