8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

الانسداد السياسي في العراق...

هناك دول تنهار من داخل. تنهار هذه الدول على نفسها. هذا ما نشهده في العراق في هذه الأيّام. صمد العراق ما يزيد على عشر سنوات. هذا كلّ ما في الأمر. ربّما تأخر الانهيار. لكن الطبيعي كان حصوله بعد انفلات الغرائز المذهبية بكلّ أنواعها وأشكالها وبأسوأ ما يمكن أن تكون عليه.
مع انهيار العراق ستنفجر المنطقة، هناك دول مثل سوريا انفجرت فعلاً، فيما لبنان على كفّ عفريت. ما يشهده العراق حالياً هو نتيجة مباشرة للإصرار الأميركي على الانتهاء من البلد الذي كان يشكل عموداً أساسياً من الأعمدة التي يقوم عليها النظام الإقليمي منذ عشرينات القرن الماضي. قرّر الأميركيون تغيير خريطة الشرق الأوسط. هل كان ذلك عن سابق تصوّر وتصميم؟ الثابت أن العراق كان نقطة الانطلاق.
قبل أحد عشر عاماً وبضعة أيّام، عقد في لندن مؤتمر للمعارضة العراقية. كان غريباً، وربّما طبيعياً أكثر من اللزوم، عقد هذا المؤتمر بتوافق أميركي - إيراني مكشوف.
جاءت الأطراف المعارضة إلى لندن، بمن في ذلك أكراد العراق، من طهران في طائرة واحدة. التحق مسعود بارزاني بالمؤتمر بعدما تأكّد، وقتذاك، من أن لا خيار آخر أمامه، نظراً الى أن الأميركيين اتخذوا قراراً لا عودة عنه بالتدخل عسكرياً لإسقاط نظام صدّام حسين، أي النظام العائلي - البعثي الذي أخذ العراق من مغامرة الى أخرى.
على الرغم من ذلك، تصرّف مسعود بارزاني في لندن تصرّف رجل دولة من الطراز الرفيع, داعياً، بشكل مسبق، إلى التخلي عن فكرة الانتقام. دعا صراحة إلى عدم ترك الغرائز تتحكّم بتصرّفات العراقيين بعد سقوط النظام. عدّد كم من أفراد عائلته، المباشرين، قتلوا على يد النظام. عدّد كم من أفراد عشيرته ذهبوا ضحية النظام. شدّد على أن المهمّ في المرحلة المقبلة تفادي الانتقام وإقامة نظام ديموقراطي في البلد. قال صراحة: لا أُريد الانتقام.
كان مسعود بارزاني يحلم. بعد أحد عشر عاماً وبضعة أيّام على عقد مؤتمر لندن، الذي كان مؤشراً إلى وجود قرار اتخذته إدارة جورج بوش الابن بالذهاب الى آخر المطاف في العراق، تبيّن أنّ لا مفرّ من الانتقام. كان إعدام صدّام حسين بالطريقة التي أعدم بها هو وأحد أخوته (برزان التكريتي)، دليلاً على أن النظام الجديد في العراق لا يقوم سوى على فكرة الانتقام... من منطلق مذهبي للأسف الشديد.
ينفّذ هذا النظام العراقي الجديد كلّ ما تطلبه إيران منه. لدى إيران حقد قديم على العراق. هناك حساب مطلوب تصفيته مع العراق والعراقيين. حصل ذلك على مراحل. كان هناك ألف سبب وسبب لإعدام صدّام، إنّما بعد محاكمة عادلة. لكن نوري المالكي رئيس الوزراء الحالي اختزل جرائم صدّام من زاوية مذهبية فقط. قرّر إعدام الرجل بسبب أحداث الدجيل، وهي قرية شيعية، تعرّض فيها الرئيس العراقي المخلوع لمحاولة اغتيال. كان الردّ على المحاولة وحشياً، لكنّه لم يكن جائزاً إعدام صدّام بسبب الدجيل... حيث هناك من حاول قتله في مرحلة ما بعد اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية في العام 1980!
قامت كلّ فكرة تغيير النظام في العراق، عن طريق احتلاله، على الانتقام. انتهى مؤتمر لندن ببيان يتحدّث، للمرة الأولى منذ قيام الكيان العراقي، عن الأكثرية الشيعية.
لماذا كان ذلك الإصرار على هذه العبارة التي أخذت بعداً في غاية الخطورة لدى تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، مباشرة بعد الاحتلال الأميركي للبلد؟
تشكّل مجلس الحكم في تموز/يوليو 2003 من منطلق مذهبي بحت. كانت الفكرة الأساسية خلف تشكيله تهميش السنّة العرب. هل كان ذلك شرطاً من الشروط التي وضعتها إيران من أجل جعل فئات شيعية مرتبطة بها تشارك في مؤتمر لندن؟
منذ تشكيل مجلس الحكم، عندما كان الأميركي بول بريمر حاكماً فعلياً للعراق، لم يتغيّر شيء. تبيّن مع مرور الوقت أنّ إيران، التي كانت شريكاً فاعلاً في الحرب الأميركية على العراق، تحوّلت إلى صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في البلد. يدفع العراق حالياً ثمن هذه المشاركة في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة وتولّت تمويلها بالمال والرجال... من أجل تقديم العراق على صحن فضّة إلى إيران!
ما كان مخفياً في الماضي القريب، صار مكشوفاً الآن. هناك انسداد سياسي في العراق. أدى هذا الانسداد، الذي في أساسه الرغبة في إلغاء المكوّن السنّي العربي، إلى انفجار البلد من داخل وانهياره. دمّر النظام العراقي الجديد نفسه بنفسه. ظهر بوضوح أن النظام الجديد غير قابل للحياة نظراً الى أنه يقوم على فكرة الانتقام وإلغاء الآخر والاستئثار بالسلطة لمصلحة إيران.
من الطبيعي في مثل هذه الحال أن ينأى الأكراد بنفسهم عن الصراع الداخلي وأن يبحثوا عمّا يضمن مصالحهم. فإلى جانب تأكيد بيان مؤتمر المعارضة العراقية في لندن (كانون الاوّل/ديسمبر 2002) على الأكثرية الشيعية، تضمّن البيان عبارة أخرى في غاية الأهمّية. تحدّث البيان أيضاً عن الفيديرالية. وُضعت هذه الكلمة من أجل إرضاء الأكراد وضمان مشاركتهم في مؤتمر لندن.
بدأ انهيار النظام الإقليمي من العراق. ما نراه اليوم هو جانب من تداعيات هذا الحدث الذي سهّل لإيران التوغّل في العمق العراقي من منطلق مذهبي وإحكام قبضتها على سوريا وعمل كل ما تستطيع من أجل أن تكون صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في لبنان.
في الأيّام الأخيرة من السنة 2013، تأكّد أن لا أفق سياسياً في العراق، أقله في المدى المنظور. لم يعد هناك مجال لتفاهم بين السنّة العرب وقسم من المكوّن الشيعي الذي يمثله المالكي والدائرة المحيطة به، خصوصاً بعد أحداث الأنبار وتقديم ما يزيد على أربعين نائباً سنّياً استقالاتهم. ما نشهده ليس انهياراً للعراق وحده. نشهد انهياراً لنظام إقليمي بالكامل. فالعراق لم يكن سوى بداية.
هل هذا ما كان يريده جورج بوش الابن أصلاً، أو أن الرجل كان من السذاجة إلى حدّ لم يدرك أنّ قراره باحتلال العراق كان تمهيداً لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وإعادة رسم خرائط الدول؟

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00