لم تفاجئ طرابلس اللبنانيين. فاجأت الذين وضعوا السيارتين المفخختين أمام المسجدين قبل أسبوع، في يوم الجمعة بالذات، من أجل قتل أكبر عدد ممكن من المصلّين والمارة. كشفت طرابلس عن وجهها الحقيقي مجدداً، تماماً كما فعلت في الرابع عشر من شباط- فبراير 2005 عندما ردّت بصوت واحد على الذين اغتالوا رفيق الحريري ورفاقه. كانت طرابلس في قلب تظاهرة الرابع عشر من آذار التي شكّلت رمزاً لوحدة لبنان وصنعت الاستقلال الثاني على حد تعبير الأخ الحبيب سمير قصير، شهيد لبنان وسوريا وفلسطين.
مرّة أخرى أحبطت طرابلس المخطط الذي كان يهدف الى زرع الفتنة واستخدام المدينة في عملية تأجيج الفتنة. مرّة أخرى أكّدت طرابلس أنّها مدينة الاعتدال وأنّ على المجرمين الذين كانوا وراء انفجار الرويس في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهم أنفسهم الذين يقفون وراء انفجاري عاصمة الشمال اللبناني، إعادة النظر في حساباتهم.
ليس سرّاً أنه كان مطلوباً من طرابلس أن ترفع شعار الأمن الذاتي وأن تتخلى عن الدولة اللبنانية، بل أن تكفر بها. وجد من يفعل ذلك، لكن المدينة أسكتت هذه الأصوات الشاذة التي كانت تتحدث في موضوع لا تفهم فيه ولا تفقه شيئاً عنه وهو أن طرابلس صارت تحت سيطرة التكفيريين.
من التكفيري في لبنان؟ التكفيري الحقيقي من يرفض الآخر وينشئ ميليشيا مذهبية تعمل من أجل إلغاء الآخر والتخلص من صيغة العيش المشترك وتحويل المسيحيين الى أهل ذمة. هذا هو الحزب التكفيري الحقيقي الذي يستأجر مسيحيين يطلقون التحذير تلو الآخر من أجل إثارة الغرائز المذهبية بالنيابة عنه. نعم، هناك مسيحيون،لا يجيدون سوى لعب دور الأداة عن الأدوات، اتقنوا التحريض على أهل السنّة في لبنان من أجل الإساءة الى العيش المشترك وإثارة الغرائز المذهبية بحجة أنهم يدافعون عن الوجود المسيحي في الوطن الصغير... أو صلاحيات رئيس الجمهورية وما شابه ذلك.
حوّلت طرابلس حزنها الى مصدر للأمل لكلّ لبنان، وذلك على الرغم من العدد الكبير للضحايا الأبرياء الذين سقطوا. كان الخطاب السياسي لزعماء طرابلس في غاية الرقيّ. لم يجد الكبار من رجال الدين ومن السياسيين الطرابلسيين سوى أن يكونوا في مستوى التحدي الذي يواجه الفيحاء. أفشلوا مخطط النظام السوري. تفادوا الوقوع في كلّ الأفخاخ التي نصبت للمدينة. لم يوجد من يرفع حتى الصوت في وجه بعل محسن، حيث الوجود العلوي، كما كان مطلوباً أن يحصل. كان كلّ طرابلسي يعرف أن المجرم الحقيقي في مكان آخر، وأن بين الأهداف المتوخاة من انفجاري المسجدين إشعال حرب جديدة ذات طابع سنّي- علوي في المدينة واللجوء الى الأمن الذاتي من جهة وتوجيه اتهامات فحواها أن الانفجارين رد على انفجار الرويس الذي استهدف أبرياء من أبناء الطائفة الشيعية الكريمة من جهة أخرى.
لم يحصل شيء من هذا القبيل. هناك نضج طرابلسي جعل المدينة تتجاوز آلامها من أجل الوطن الصغير الذي اسمه لبنان.
تبيّن أن ما يجمع الطرابلسيين من كل الفئات والطوائف والمذاهب أكبر بكثير مما يفرّقهم. ولذلك ظهرت الوحدة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين من أهل المدينة في أبهى صورة. كانت تلك الصورة أفضل ردّ على الذين يتهمون عاصمة الشمال بأنها معقل لـالتكفيريين.
يكمن سرّ طرابلس في أنها عانت من ظلم النظام السوري أكثر من غيرها من المدن والبلدات اللبنانية طوال سنوات عديدة وذلك نظراً الى قربها من حمص وحماة والشاطئ السوري.
قبل أن يوجد النظام السوري الحالي مطلع السبعينات من القرن الماضي، لم يكن هناك أي نوع من الطائفية والمذهبية في المدينة. كانت هناك زيجات مختلطة كثيرة بين السنّة والعلويين. كان هناك أيضاً دور مهمّ لمسيحيي المدينة. تغيّرت الأمور مع تولي حافظ الأسد السلطة في سوريا. صار يعامل طرابلس معاملة مدينة سنّية سورية متمرّدة على نظامه الطائفي، كما حال حمص وحماة.
تعلّم أهل طرابلس من تجارب الماضي القريب. رفعوا شعار لبنان أوّلاً. كانوا في قلب الرابع عشر من آذار وكانوا في قلب المواجهة مع عصابة فتح الإسلام التي أرسلها النظام السوري الى مخيّم نهر البارد القريب من المدينة. وقف أهل طرابلس وقفة رجل واحد مع الجيش اللبناني الذي تصدّى للعصابة الآتية من سوريا بقيادة إرهابي اسمه شاكر العبسي كان محتجزاً في سجن سوري. الأهمّ من ذلك كلّه أن طرابلس لم تخفِ يوماً تعاطفها مع ثورة الشعب السوري على الظلم الذي عانت منه طويلاً. مَن من أهلها ينسى مجزرة باب التبانة في التاسع عشر من كانون الأول- ديسمبر من العام 1986؟
كان الهدف الدائم للنظام السوري تدجين المدينة وزيادة درجة البؤس فيها ونشر الطائفية والمذهبية بين أهلها حتى تفشل كلّ المحاولات الهادفة الى تنفيذ أيّ مشروع ذي طابع إنمائي في المدينة.
أعطت طرابلس نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه لبنان مستقبلاً وذلك على الرغم من الحرمان الذي تتعرّض له. نزل شبابها الى الشارع لإزالة آثار الدمار الذي خلّفته كارثة يوم الجمعة 23 آب- أغسطس 2013. قبل ذلك، لم يقصّر أي طبيب من أطباء المدينة في معالجة الجرحى ضحايا الانفجارين الذين زاد عددهم على الألف.
يُفترض في القادرين من أهل المدينة أن يفعلوا شيئاً لأهلها بدل الركض وراء مصالح ضيقة وخادعة في آن يعتقدون أنها ستفيدهم في شيء لدى المواطن العادي. يُفترض بهم أن يكونوا في مستوى أبناء طرابلس الذين لم يخذلوا لبنان واللبنانيين يوماً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.