ثمة حاجة بين حين وآخر الى وضع الامور في نصابها بعيدا عن الشعارات والكلام المعسول الذي لا يقدّم ولا يؤخر. يُفترض أن يترافق ذلك مع كلام صريح ومباشر عن الفتاوى التي تصدر عن رجال دين غير مؤهلين يسير خلفهم بعض الجهلة من دون طرح أي سؤال من أيّ نوع كان.
كان تدخل الملك عبدالله الثاني بين فترة وأخرى لوضع الامور في نصابها من بين الاسباب التي ساعدت الاردن وحمتها في مواجهة العواصف التي هبت ولا تزال تهبّ على الشرق الاوسط.
قبل الحرب الاميركية على العراق في آذار- مارس 2003، سعى العاهل الاردني الى تنبيه الرئيس جورج بوش الابن الى مخاطر تلك الحرب على صعيد الاخلال بالتوازن الاقليمي. لم يكن عبدالله الثاني، لدى عقده لقاء مع بوش الابن صيف العام 2002، معجبا لا بصدّام حسين ولا بنظامه العائلي- البعثي. كان حتى أشدّ انتقادا للنظام من الادارة الاميركية نفسها. لكنّه سعى بطريقة لبقة الى جعل المقيم في البيت الابيض وقتذاك يستوعب معنى التغيير الشامل في العراق بواسطة الدبابات والطائرات الاميركية من دون دراسة في العمق لما سيجرّه مثل هذا التغيير.
بالطبع، لم يكن بوش الابن في وارد الاستماع الى أيّ رأي آخر بعدما اعتقد أن العراق الجديد سيكون نموذجا تحتذي به دول المنطقة.
مع مرور الوقت، تبيّن ان العراق الجديد نموذج بالفعل. لكنّه النموذج الأسوأ لأيّ دولة في العالم، وليس في المنطقة فقط، بعدما تحوّل مرتعا لانتشار كلّ الافكار المتطرّفة أكانت سنّية أو شيعية. شكّل المكوّن الكردي الاستثناء الوحيد نظرا الى أنه عرف كيف الاستفادة من تجارب الماضي القريب والابتعاد عن كلّ ما من شأنه اثارة الغرائز بكلّ انواعها وأشكالها...أقلّه في المنطقة الكردية.
في تشرين الاول- اكتوبر 2004، أي بعد سنة ونصف سنة على الدخول الاميركي الى العراق، تطرّق عبدالله الثاني في حديث ادلى به الى صحيفة واشنطن بوست الى الهلال الشيعي. كان يتحدّث عن هذا الهلال بالمعنى السياسي بعدما لجأ النظام في ايران، وهو المنتصر الاوّل والوحيد بعد الاحتلال الاميركي للعراق، الى استغلال الدين لتحقيق مأرب توسّعية في اتجاه العراق وسوريا ولبنان.
لا يحتاج عبدالله الثاني سليل الاسرة الهاشمية الى شهادة من أحد في ما يتعلّق بعدم التمييز بين مذهب وآخر. فتاريخ الاسرة غنيّ عن التعريف، خصوصا أن الهاشميين من آل البيت ولم يفرّقوا يوما بين مواطن وآخر، فكيف بين مسلم ومسلم آخر؟
بعد شهر على حديث الملك الى واشنطن بوست، أي في التاسع من تشرين الثاني-نوفمبر 2004، جاءت رسالة عمّان في مناسبة الدعوة الى مؤتمر لكبار رجال الدين المسلمين بهدف البحث في التحديات التي تواجه الدين الحنيف في فترة زادت فيها الاصوات المتطرفة والدعوات الى اعتماد العنف بما يصبّ في تشجيع الارهاب. كانت رسالة عمّان دعوة الى الوسطية والاعتدال واعطاء العالم صورة صحيحة عن الاسلام.
جاءت رسالة عمّان وكأنّها اجراء احترازي يصدر عن شخص يدرك ما الذي ينتظر المنطقة في ضوء الزلزال الذي أخرج الغرائز المذهبية وكلّ ما له علاقة بالتطرف والارهاب من القمقم.
الآن، لم يعد الامر مقتصرا على العراق وحده، بل أنّ اللغة المذهبية والعنف المذهبي انتشرا في المنطقة كلّها، خصوصا بعد استغلال الاخوان المسلمين لـالربيع العربي من أجل خطف الثورات العربية. وظّف هؤلاء الثورات العربية بما يخدم نظرتهم الضيقة والمتزمتة الى كلّ ما هو حضاري في هذا العالم والى مفهوم الديموقراطية الذي لا يعني لهم سوى الاستيلاء على السلطة. انهم لا يختلفون في شيء عن النظام الايراني الذي يستخدم المذهب لتحقيق أغراض سياسية خاصة به...
في السنة 2013، جاء عبدالله الثاني ليذكّر مجددا بـرسالة عمّان. كانت المناسبة استقباله المشاركين في المؤتمر السادس عشر لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الاسلامي. شرح لمن فاته ذلك أن رسالة عمّان تعطي فكرة عن الاسلام كما هو، أي الاسلام الذي ينتمي الى هذا العالم والذي يعترف بالآخر قبل أي شيء آخر. كذلك تتصدى الرسالة للتكفير وتحدّد من هو أهل للافتاء.
كان واضحا أن في بال العاهل الاردني الحرب الاهلية ذات الطابع الطائفي والمذهبي الدائرة حاليا في سوريا. فاضافة الى تحذيره من خطورة استغلال الدين لاغراض سياسية وبث الفرقة البغيضة، دعا من سمّاهم علماء الامة الى مواجهة خطاب الفتنة الطائفية في سوريا ومنع انتشارها في العالم العربي والاسلامي والحفاظ على وحدة سوريا.
لم تفته الاشارة الى أهمّية عدم تكفير المسلم للمسلم واحترام اتباع المذاهب الثمانية من السنّة والشيعة بمن فيهم العلويون والاباضية ومن هم من السلفيين والصوفيين.
من الواضح أن لدى عبدالله الثاني حرصا على المكوّن العلوي في سوريا. انه يدرك أهمّية هذا المكون الذي يجب أن يكون جزءا من الحلّ وليس من المشكلة كما الحال الآن بسبب تصرّفات النظام القائم أوّلا.
لم يتردد في كل مداخلاته الاخيرة في الاشارة الى أهمّية اشراك العلويين في أي حل أو تسوية في سوريا. لم يلق النجاح المطلوب المؤتمر الذي شجعت الاردن على عقده (انعقد في القاهرة قبل ثمانية أشهر) من أجل اشراك العلويين في وضع تصوّر لسوريا المستقبل. لكنّ الاكيد أن الملك كان يتحدّث عمّا قد نشهده في المستقبل. هل نشهد مجازر طائفية في سوريا وعمليات تنظيف ذات طابع عرقي، كما حصل في بعض مناطق العراق...أم تسود لغة العقل ويبتعد السوريون عن السقوط في فخّ انفلات الغرائز؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.