14 نيسان 2020 | 22:00

منوعات

بيروت تتحسّر في محنتها وعزلتها على رجالاتها.. زمن النخوة والمروءة!‏

بيروت تتحسّر في محنتها وعزلتها على رجالاتها.. زمن النخوة والمروءة!‏

كتب: زياد سامي عيتاني


بيروت.. في زمن هذا البلاء، الذي وقعه على أبنائها أشد وطأة من الوباء، تتحصر وكسرة وهي ‏تستذكر رجالاتها الرجال، زمن النخوة والنخبة، زمن المروءة والشهامة، التي كانت ثمة ومناقب ‏رجالات بيروت من وجهائها وأغنيائها وقبضاياتها والنافذين فيها، وزعماء الأحياء الشعبية، ‏الذين كانوا يغارون على أبناء مدينتهم وأحيائها، ويقفون إلى جانبهم في الصراء والضراء، دون ‏حاجة لإعلاء الصوت، أو حتى الإستنجاد والإستغاثة...‏

يومها كانوا يهبون لنجدة أهلها وناسها وأبنائها في أوقات المحن والمصاعب، ويقيفون إلى جانبهم ‏عند الشدائد و"غدرات الزمن"... ‏

في ذلك الزمن الغابر كانوا يناصرون المظلوم ويحقون الحق لصاحبه، ويردون الأذى عن ‏الضعيف، ويقضون حاجة المحتاج بصمت، مع المحافظة على كرامتهم وعزة نفسهم...‏

كان كل واحد منهم "كساب وهاب"، "يللّي بجيبتهم لغيرهم"، ما كان "يهين" عليهم ينام إبن ‏محلتهم جوعان، "كانوا يقسمون اللقمة بينهم وبين جيرانهم"، عملاً بالمثل: "بحصة بتسد خابية"، ‏والمثل الآخر: " إذا جارك بخير، أنت بخير"...‏




‏**‏

كان قبضاي الحي أو النافذ فيه "ياخد من الغني ليعطي الفقير"، وذلك على قاعدة "الساعي للخير ‏كفاعله"، و إذا عرف "بعيلة مستورة" بمنطقته، كان يضع طربوشه (الذي لا ينزعه عن رأسه) ‏على الطاولة بالقهوة، حتى كل واحد يوضع فيه "إللّي في النصيب"، دون أن يسأل أحد عن هوية ‏المحتاج، فيشتري كل ما يحتاجه البيت ويضعها في صندوق، وينتظر حتى يحل الظلام، فيرسل ‏‏"الصباي" (صبيه) إلى بيت تلك العائلة، ويطلب منه أن يضعها على باب البيت، ثم يضق عليه ‏ويفر مسرعاً، حتى لا تعلم تلك العائلة من الذي تصدق عليها، حفاظاً على مشاعرها وكرامتها....‏

وإذا ما جاءته أرملة تشكو من خلف "الفيشة" التي تغطي وجهها، سوء حالها وأوضاعها، بعد ‏وفاة زوجها، وأن لا معين لها ولأطفالها؛ أجابها دون أن تكمل حديثها، وهو ينظر إلى الأرض ‏إحتراماً وتأدباً: "إعذريني يا أختي على التقصير، حقك علينا، يا حيف على الرجال... إرجعي ‏على بيتك يا حرمة، وما تعطلي هم شي، لح تعيشي أنت وأولادك معززة ومكرمة، كل شي ‏بتحتاجيه لح يوصلك على باب البيت، أنت أختنا، وأولادك أولادنا"... ‏

بيروت في زمن الخسة والمهانة والخنوع، كم تتحسر بلهفة على قباضايات الرجولة والشهامة ‏والشكيمة، كم تتحسر بمرارة وحزن على عكيف السبع، وأبو طالب النعماني، وراشد دوغان، ‏ونقولا مراد، وعبيدو الأنكدار، ونخلة العربانة، وأبو عبد الغفار عيتاني، وحسين سجعان، ‏ومصطفى علوان، ورشاد قليلات، وأحمد البواب، وأبو السعد مجداني، والكثير الكثير ممن كانوا ‏خير سند ومعين للضعيف والفقير...‏




‏**‏

أما الوجهاء والأغنياء، فكانوا كل خميس من ليلة الجمعة يتداعون ويلتئمون في بيت أحدهم ‏بحضور إمام جامع المحلة ومخاتيرها بعد صلاة العشاء ليتباحثوا بشؤون منطقتهم وأوضاع أهلها ‏المعيشية والحياتية، وذلك عملاً بالقاعدة القرآنية: "وتعاونوا على البر والتقوى"، وكيف يمكن ‏مساعدتهم من "صندوق المنطقة"، الذي يكون في عهدة "شيخ الجامع"، لا سيما في المواسم ‏والمناسبات كبداية فصل الدراسة، ووقت كسوة الشتاء والصيف، وشهر رمضان المبارك، ‏والأعياد؛ فيضعون جدول أولويات لمد يد العون والمساعدة للعائلات المحتاجة، لتمكينها من ‏التغلب على سوء ظروفها الصعبة، لأن "الجار للجار" و"النبي وصى بسابع جار"، فإذا المال في ‏الصندوق غير كافٍ، بادروا دون تردد إلى إيداع مما أعطاهم الرزاق الكريم من ماله، لينفقوا منه ‏على مستحقيه ممن تجوز عليهم الصدقة، لأنهم كانوا خيرين ويؤمنون: "أن حسنة قليلة بتدفع ‏بلاوي كتيرة" و"أن الإنسان يعرف أصله من فعله"...‏

فأين أغنياء والنافذين والمقتدرين والمتخمين من أبناء جلدهم في الزمن الموبوء أخلاقياً ‏و"كورونياً"!؟ أين هم من أسلافهم الصالحين والخيرين والمقدامين من أصحاب المبادرات ‏الإنسانية والأيادي البيضاء والعطاءات دون حساب ودون "عراضات" ترويجية-إستعراضية!؟

أين أنتم من خصال وأخلاق وحمائد أبو علي سلام، وعمر الداعوق، وعبد الفتاح حمادة،ومحمد ‏جميل بيهم، ومحمد جميل الداعوق، ومحمد عمر نجا، ومحمد فاخوري، ومحمد توفيق الهبري، محمد توفيق ‏خالد، وسعد الله شاتيلا، وغيرهم الكثيري ممن تذكر أعمالهم فتشكر!؟




‏**‏

ما أحوجك يا بيروت يا أميرة الحزن والدمع والحسرة، ما أحوجك في زمن اليتم والغُربة، في ‏زمن الجوع والعوز الممزوجان بالكبرياء والعنفوان، ما أحوجك إلى أمثال تلك الكوكبة من ‏عظماء رجالاتك الأبرار الذين بمالهم وإقدامهم وكرمهم وسخائهم نسجوا التكافل والتعاضد بين ‏أهلهم وناسهم، فساد الإكتفاء وحفظت الكرامات...‏

ما أحوجك يا بيروت إلى أخلاقهم وأفعالهم، يوم لم تكن تدري يمينهم ما تعطي شمالهم، يوم كانوا ‏يسلكون نهج مكارم الأخلاق ويقتضون به فعلاً وعملاً وليس قولاً، يوم كانوا يبذلون المعروف ‏لأهله ولمستحقيه، عملاً بقول النبي صلّ الله عليه وسلم : "إرحموا عزيزاً ذلّ ، وغنياً إفتقر ، ‏وعالم ضاع بين جهال"... ‏




أما اليوم، فأدق توصيف لحال بيروت والبيارتة، ماقاله عمر الزعني منذ عقود من الزمن: ‏

يا ضيعانك يا بيروت.. ‏

يامناظر غشاشة،

ياخداعة وغشاشة، ياعروس بخشاشة،

يا مصمودي بالتابوت،

‏ الجهال حاكمين، والزعران عايمين، ‏

والأنذال عايشين، والأوادم عما تموت، ‏

الغريب بيتمخطر، والقريب بيتمرمر،

واللي بيفوت ما بيظهر، ‏

واللي بيظهر ما بيفوت، ياضيعانك يا بيروت...‏




يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

14 نيسان 2020 22:00