مرت قبل ايام الذكرى الخامسة لغياب ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني. ترك ابو عمّار فراغا ضخما على كل صعيد، خصوصا في مجال القدرة على ممارسة الزعامة ممارسة حقيقية. مكنته تلك القدرة من وضع فلسطين على الخريطة السياسية للشرق الأوسط والعالم. من قبره في رام الله لا يزال ابو عمار يقرع يوميا ابواب القدس مؤكدا، على الرغم من كل المصائب التي حلت بالشعب الفلسطيني والنكسات التي تعرَّض لها ولا تزال تتعرض لها القضية الفلسطينية، ان الدولة المستقلة ستبصر النور عاجلا ام آجلا.
كان ابو عمار يدرك كم قضيته كبيرة. كان يؤمن بالشعب الفلسطيني وقدرة ابنائه على المقاومة والصمود. كان يعرف جيدا ان المعركة مع اسرائيل والإحتلال الذي تمثله معركة حضارية قبل اي شيء آخر. لذلك، كان يحتفظ دائما في جيب قميصه ذي اللون الكاكي بورقة عليها بعض الأرقام. تشير الأرقام الى عدد الأطباء والمهندسين والمحامين والعلماء في صفوف الشعب الفلسطيني. كان يشدد على ان الشعب الفلسطيني بين اكثر الشعوب العربية تعلقا بالعلم والمعرفة يحاول بهما تعويض جانب من الظلم التاريخي الذي لحق به.
اختصر ياسر عرفات القضية الفلسطينية في شخصه طوال ما يزيد على ثلاثة عقود. ادخل فلسطين الى الأمم المتحدة واقام لها سفارات وبعثات ديبلوماسية في معظم دول العالم. دخل البيت الأبيض وعاد الى فلسطين من بوابة واشنطن واتفاق اوسلو. من كان يصدق ان ابو عمّار سيرى يوما ارض فلسطين وان قبره سيكون في رام الله، موقتا، وليس في عمان او بيروت او تونس؟ لن يكون بعيدا اليوم الذي سيعود فيه ياسر عرفات الى القدس... عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة.
في السنوات الخمس الماضية، طرأت تغييرات جذرية على المشهد الفلسطيني. كان ذلك طبيعيا نظرا الى ان ياسر عرفات اقام نظاما على قياسه. انهار هذا النظام عمليا مع غياب الرجل الذي كان كل شيء بالنسبة الى فلسطين. كان يتعاطى في الصغيرة والكبيرة. كان صاحب القرار السياسي والعسكري والمالي والتنظيمي، خصوصا بعد استشهاد ابو جهاد وابو اياد. في المرحلة الممتدة من العام 1990 وحتى وفاته في السنة 2004، لم يعد هناك بين القادة الفلسطينيين من يستطيع الدخول في نقاش جدي معه او الأعتراض على بعض مواقفه سوى السيد محمود عبّاس (ابو مازن) الذي ينتمي الى طينة اخرى من السياسيين، طينة الذين لا يعرفون المداهنة ولا المناورة ولا حتى استخدام الأشخاص ضد بعضهم بعضاً، كما كان يفعل ابو عمّار. ابو مازن رجل واضح وجريء يلتزم كلمته. هو بإختصار رجل يعرف ماذا يريد ويعرف خصوصا ان ليس في استطاعته ان يكون ابو عمّار آخر.
منذ توقيع اتفاق اوسلو في العام 1993 في حديقة البيت الأبيض، حقق ياسر عرفات قسما لا بأس به من طموحاته السياسية. عاد الى فلسطين ومارس السلطة على جزء من الأرض الفلسطينية وأن بطريقة عشوائية تذكّر في احيان كثيرة بالأخطاء القاتلة التي ارتكبها في عمان وبيروت ثم في العام 1990 عندما لم يحسن التصرف اثر الاحتلال العراقي للكويت. ولكن ما كان يشفع به دائما تمسكه بالقرار الفلسطيني المستقل وهذه من الميزات القليلة التي تجمع بينه وبين ابو مازن. استطاع ياسر عرفات ان يبقى رمزا لفلسطين حتى لحظة وفاته في باريس في ظروف يظن كثيرون انها غامضة.
بدّل غياب ياسر عرفات كل شيء في المشهد الفلسطيني. هناك نظام انهار. على انقاض هذا النظام، نشأ وضع جديد يتمثل في صعود حماس واستيلائها على قطاع غزة وتحويله امارة اسلامية على الطريقة الطالبانية مدعومة من المحور الإيراني- السوري. احتاج الفلسطينيون خمس سنوات كي يدركوا ان هناك مشكلة كبيرة ناجمة عن الفراغ الذي خلفه غياب ياسر عرفات. ما لا بدّ من التوقف عنده في هذه الأيام ليس اعلان ابو مازن امتناعه عن خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة المتوقعة في الرابع والعشرين من كانون الثاني المقبل. في النهاية، تختلف شخصية الرئيس الفلسطيني الحالي بشكل جذري عن شخصية ياسر عرفات الذي كان متمسكا بالسلطة الى ابعد حدود. ولذلك، ربّما قرر محمود عبّاس الانصراف بهدوء تاركا الفلسطينيين يتدبرون امورهم بأنفسهم بعدما خذله الوسيط الأميركي. بكلام اوضح، كان رهان ابو مازن على شخص الرئيس باراك اوباما الذي زاره قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية واكد له انه سيبذل منذ اليوم الأول لدخوله الى البيت الأبيض جهودا للتوصل الى تسوية على اساس خيار الدولتين استنادا الى مرجعية واضحة هي خطوط العام 1967.
من حسن الحظ ان الأشهر القليلة الماضية شهدت للمرة الأولى محاولات جدية لإقامة مؤسسات فلسطينية. واذا كان من ايجابية لقرار ابومازن، الذي ليس مستبعدا ان يصر على موقفه، فإن هذه الإيجابية تمثل في انه صارت هناك نواة لمؤسسات فلسطينية في الضفة الغربية. انها مؤسسات مدنية وعسكرية وامنية تعتبر ان القضاء على فوضى السلاح تشكل العامل الأهم في الصمود في وجه الاحتلال الإسرائيلي تمهيدا لدحره. الفضل في ذلك يعود الى حد كبير الى حكومة الدكتور سلام فياض والى الجيل الجديد في فتح الذي اصرّ على انعقاد المؤتمر العام للحركة في بيت لحم وليس في اي مكان آخر.
بعد خمس سنوات على غياب ابو عمار، يبدو مفيدا الاعتراف بأن الفلسطينيين في الضفة الغربية حققوا تقدما على صعيد ملء الفراغ من جهة وتأكيد انهم شعب يستحق الحياة ويستأهل الحصول على دولة من جهة اخرى...بدأ الفلسطينيون يتعودون فكرة أن ابو عمار لم يعد موجودا وان المستقبل للمؤسسات وليس للذين يختزلون المؤسسات في شخصهم، مهما كان هذا الشخص عظيما!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.