لم يكن تصويت المواطنين التونسيين بكثافة للرئيس زين العابدين بن علي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة سوى تعبير عن تمسكهم بمشروع معيّن يقوم على التنمية المستمرة والاستقرار بعيداً عن الشعارات التي لم تبنِ بلداً ولم تطعم شعباً ولم تحمِ نظاماً في المدى الطويل.
في النهاية امتلك الرئيس التونسي الذي تولى السلطة في العام 1987 من القرن الماضي ما يكفي من الشجاعة لقول الحقيقة، كما هي من دون مواربة، للتونسيين بعيداً عن أي نوع من أنواع التملق للشارع. اكتشف التونسيون في ضوء التجارب التي مروا بها منذ الاستقلال أن لا خيار أمامهم سوى التمسك بمشروع بن علي الذي يشكل تطويراً لسياسة ثابتة تقوم على الاستثمار في الإنسان، في المرأة والرجل في آن، بعيداً عن أي نوع من العقد.
هناك في العالم العربي عدد قليل من الزعماء يرفضون الانقياد للشارع والسقوط في لعبة المزايدات التي يمكن أن ترتد عاجلاً أم آجلاً على من يمارسها. هؤلاء الزعماء لا يتنكرون للماضي وينقلبون عليه، بل يأخذون أفضل ما فيه. لذلك كانت تجربة تونس ناجحة الى حد كبير من منطلق أن زين العابدين بن علي لم يجد أن عليه أن يرفض ما تحقق في عهد الحبيب بورقيبة كي يثبت أن لديه ما يقدمه للتونسيين ولتونس. على العكس من ذلك، استطاع الرئيس التونسي اثر التحول الذي حصل في السابع من نوفمبر 1987 إنقاذ التجربة البورقيبية من حال الترهل التي تعرضت لها اثر تقدم الرئيس الراحل في العمر. وعمل في الوقت ذاته على تطوير التجربة مع التركيز على الجوانب المشرقة فيها، خصوصاً الجانب المتعلق بحقوق المرأة والانفتاح على العالم من دون تقديم أي تنازلات تتعلق بالهوية العربية والإسلامية لتونس بعيداً عن أي نوع من التطرف أو التشنج في أي مجال كان. باختصار شديد، أنقذ تحول العام 1987 تونس وحال دون سقوطها في متاهات التطرف والانغلاق على الذات التي كانت تسعى اليها بقوة أحزاب معينة تدعي أنها إسلامية ولا تخدم في واقع الحال سوى جهات خارجية تتربص تونس وتريد لها الخراب.
لم يفت التونسيين أن التجربة التي مر بها بلدهم منذ العام 1987 أتاحت لهم العيش في ظل نظام مستقر يعرف تماماً ما الذي يريده والى أين يريد أن يصل.
ليس سراً أن النظام في تونس يعمل من أجل نقل البلد الى مكان آخر. من دولة نامية، الى دولة متقدمة. من يظن هذا الأمر مستحيلاً، يمكن إحالته على لغة الأرقام. تقول لغة الأرقام إن دخل الفرد في تونس كان في العام 1986 نحو 960 ديناراً، ما هو أقل من تسعمئة دولار أميركي، فإذا به في السنة 2008 نحو أربعة آلاف وثمانمئة دينار، ما يوازي أربعة آلاف دولار. أوليس ذلك إنجازاً في حد ذاته في بلد لا يملك الكثير من الثروات الطبيعية؟.
ما سر التقدم الذي حققته تونس في مجال التنمية ولماذا لم تسقط كغيرها، كالجزائر مثلاً التي تمتلك ثروات كبيرة، ضحية التطرف الديني؟ الجواب ذو شقين. الشق الأول أن تونس تعاطت باكراً بحزم مع التطرف الديني. تبين بكل وضوح أن التطرف الديني، الذي يلبس في أحيان كثيرة لبوساً مرتبطاً الى حد كبير بالاعتدال ويحاول استغلال الديموقراطية لأغراض لا علاقة لها بتداول السلطة أو بالأسس التي تقوم عليها أي ديموقراطية، ليس سوى نسخة مقنعة عن الحركات الإرهابية من نوع القاعدة. أما الجانب الآخر الذي سمح لتونس بمواجهة التطرف، فيتمثل في الاستثمار في التعليم وتطوير البرامج التربوية.
سجلت نفقات الدولة في مجال التعليم العالي والتربية في الفترة بين العامين 1986 و2008 زيادة نسبتها عشرة في المئة سنوياً. هذه النسبة هي الأعلى في العالم. والتعليم في تونس، فضلاً عن كونه مجانياً في كل درجاته، إلزامي بالنسبة الى كل الأطفال من سن السادسة الى سن السادسة عشر.
صوّت التونسيون لمصلحة مشروع متكامل لا أكثر ولا أقل. السؤال الآن كيف يكون تطوير التجربة حتى لا تراوح مكانها وكيف يمكن تطوير المشروع نفسه. كان لافتاً أن المنافسة على موقع الرئاسة كانت بين أربعة مرشحين. كانت صور الأربعة في كل زاوية من تونس العاصمة والمدن الكبرى. ولكن بدا واضحاً أن التجمع الدستوري الديموقراطي، وهو الحزب الحاكم، يمتلك آلة تنظيمية ضخمة على كل المستويات أتاحت له تقديم مرشحين للانتخابات التشريعية التي جرت في موازاة الانتخابات الرئاسية، في كل الدوائر. بدا واضحاً أن بعض الأحزاب المعارضة ستكون قادرة على تطوير نفسها مستقبلاً، خصوصاً الأحزاب التي لا تتلقى دعماً من الخارج، وهو أمر مرفوض بشدة من التونسيين أنفسهم قبل أن يكون مرفوضاً من الدولة ومؤسساتها. هناك شيء اسمه الوطنية التونسية يشعر به الزائر أينما حل في البلد.
تونس الى أين؟ لا شك أن ما تحقق على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي وعلى صعيد الاستقرار السياسي والأمني يمثل إنجازات ضخمة. ولا شك أن المشروع التونسي القائم على ايجاد طبقة متوسطة كبيرة حقق نجاحاً. معظم التونسيين ينتمون الى الطبقة المتوسطة ومعظمهم يمتلكون منازلهم.
كيف السبيل لتطوير التجربة سياساً والانتقال بها الى آفاق التعددية السياسية في دولة ذات مؤسسات متينة؟
ربما كان ذلك السؤال الكبير. الانتخابات الأخيرة خطوة أولى في اتجاه التعددية وتثبيتها. في النهاية، على التونسيين وعلى تونس العيش على الضفة الأخرى من المتوسط. إنها الضفة المقابلة لأوروبا. صحيح أن في استطاعتها المحافظة على خصوصية معينة لتجربتها، لكن الصحيح أيضاً أنها لا تستطيع الانتقال الى مصاف الدول المتقدمة من دون التطوير المستمر للتجربة والمشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي انحاز التونسيون له في الانتخابات الأخيرة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.