هناك وجه اخر لفلسطين في واشنطن. وجه يحترمه الاميركيون كما يحترمه العالم المتحضر. هذا الوجه الفلسطيني الذي يمكن ان يحقق اختراقا داخل الولايات المتحدة نفسها يعمل تحت مظلة اسمها فريق العمل الاميركي من اجل فلسطين. قبل ايام، مساء الخامس عشر من تشرين الاول الجاري، اقام فريق العمل الذي يرأسه الدكتور زياد عسلي عشاءه السنوي في احد الفنادق الكبرى في العاصمة الاميركية. كان المشهد من النوع الذي يستحق التوقف عنده لاسباب عدة. في مقدم الاسباب حضور الجنرال المتقاعد جيمس جونز مستشار الرئيس الاميركي لشؤون الامن القومي وقوله في كلمته التي اختتم بها العشاء انه جاء لتمثيل باراك اوباما. وهذا يعكس في طبيعة الحال الاهمية التي يوليها الرئيس الاميركي للقضية الفلسطينية من جهة ومدى استعداده للذهاب بعيدا في جهوده الهادفة الى تحقيق تسوية في الشرق الاوسط من جهة اخرى.
في وقت يتردد كلام كثير عن تراجع ادارة اوباما في شأن الاستيطان، تحدث الجنرال جونز الذي يعرف الضفة الغربية عن ظهر قلب، كما يعرف الفلسطينيين والاسرائيليين وطبيعة النزاع، عن انهاء الاحتلال الذي بدأ في العام 1967. لا يمكن في طبيعة الحال الاستخفاف بمثل هذا الكلام، خصوصا بعد تأكيد جيمس جونز انه جاء الى العشاء ممثلا لباراك اوباما وليس بصفته مستشار الرئيس لشؤون الامن القومي فقط. اراد ان يقول ان هناك سياسة محددة للادارة تقوم على ان ما يرسم حدود الدولة الفلسطينية الخطوط التي كانت قائمة في العام 1967 قبل الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية. وهذا يعني في طبيعة الحال ان حدود الدولة الفلسطينية لا ترسمها المستوطنات، او على الاصح المستعمرات الاسرائيلية، وهو ما يطمح اليه بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي لا يريد السماع بمفاوضات فلسطينية- اسرائيلية، بل يعمل كل ما يستطيع من اجل ان تكون هناك شروط اسرائيلية تمنع اي فلسطيني من الدخول في مفاوضات او حتى ولوج بابها.
على النقيض من الموقف الاسرائيلي، كان الجنرال جونز واضحا كل الوضوح في تأكيده ان هناك احتلالا اسرائيليا للضفة الغربية وان الحل يكون بقيام دولتين على ارض فلسطين. تكمن اهمية ما يقوم به فريق العمل الاميركي من اجل فلسطين في انه يعمل في اتجاه دفع القضية الفلسطينية الى امام من خلال النظام المعمول به في الولايات المتحدة. مثل هذه السياسة تنفع في المواجهة مع اسرائيل في المكان الذي يوفر لها اكبر مقدار ممكن من الدعم على كل المستويات وفي كل الميادين. ليس صدفة ان العشاء السنوي لـفريق العمل الاميركي من اجل فلسطين كان تحت شعار فلسطين في محاذاة اسرائيل: الحرية، الامن، الازدهار. لم يكن مطلوبا في اي شكل الدخول في صدام مع الاميركي. كان مطلوبا تأكيد واقع يتمثل في ان الفلسطيني هو الضحية وانه ضحية الاحتلال تحديدا. لفظ الرئيس اوباما بواسطة احد ابرز مساعديه كلمة احتلال. المشكلة في الاحتلال وفي كيفية التخلص منه. لن يتخلص الفلسطينيون من الاحتلال من دون جهود، تبذل على الارض الفلسطينية وفي واشنطن نفسها على وجه التحديد، تستهدف تأكيد ان الارض الفلسطينية ستكون ارضا آمنة وان الانسحاب الاسرائيلي لن يؤدي الى اقامة قاعدة لـالقاعدة في فلسطين او امارة على الطريقة الطالبانية، نسبة الى طالبان، كما حصل في غزة. كل ما يريده الفلسطينيون هو السلام والعدالة والحرية والازدهار والعيش بأمان وسلام مع المحيطين بهم.
كانت الرسالة واضحة. كانت رسالة دعم لما تقوم به السلطة الوطنية في الضفة الغربية ولجهود الحكومة الفلسطينية المنبثقة عن السلطة برئاسة الدكتور سلام فياض. ولذلك، شهد العشاء تكريما لشخصيات فلسطينية وعربية واميركية على علاقة بكل ما هو حضاري. كان هناك تكريم للدكتورة نجاة عرفات خليل عالمة الفيزياء النووية وابنة نابلس وزوجها وزير الطاقة والمناجم الجزائري السابق شكيب خليل وللطبيب الفلسطيني الدكتور فؤاد جبران والدكتور شبلي تلحمي. وكان هناك اعتراف بما قدمه ويقدمه فلسطينيون واميركيون من اجل قضية السلام. وبين هؤلاء السفير روبرت بلليترو الذي مثل الجانب الاميركي في اول لقاء رسمي بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير الفلسطينية قبل عشرين عاما. كان هناك باختصار وجه آخر لفلسطين في واشنطن دي. سي، عاصمة العالم من الناحية السياسية.
اظهر الفلسطينيون انهم شعب يؤمن بثقافة الحياة وان لديهم ما يقدمونه غير العنف والكلام عن الغاء الاخر. اظهروا ان ليس في استطاعة العالم ان يظل صامتا عندما يتعلق الامر بالاحتلال. اظهروا اخيرا ان ليس من العدل في اي شكل المساواة بين الضحية والجلاد. اكثر من ذلك، اثبتوا لمن يعنيه الامر في الولايات المتحدة انهم الضحية وان ليس صحيحا انهم لا يؤمنون سوى بالارهاب كما تدعي اسرائيل وحكومتها الحالية على وجه الخصوص، وهي حكومة تمارس ارهاب الدولة عندما تتمسك بالاحتلال. ولكن ما قد يكون اهم من ذلك كله، انهم اكدوا بما لا يقبل الشك انهم باتوا يعرفون اصول اللعبة داخل الولايات المتحدة نفسها. تقوم اللعبة على التحرك من داخل النظام المعمول به. انها مجرد بداية مشجعة ان يباشر الفلسطيني التحرك من داخل النظام الاميركي، تماما كما تفعل اسرائيل ومن يناصرها. في النهاية، من يلعب من خارج النظام، يبقى على هامشه ولا يصل يوما الى التأثير على مركز القرار في واشنطن. لا يمكن بالطبع المبالغة على صعيد ما تحقق فلسطينيا... لكن رحلة الالف ميل تبدأ دائما بخطوة!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.