8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

في مناسبة غياب روبرت مكنمارا ...

كان روبرت مكنمارا الذي غيّبه الموت قبل أيام أشهر وزير للدفاع في تاريخ الولايات المتحدة نظراً إلى أن أسمه ارتبط بشكل عضوي بحرب فيتنام، وهي أول حرب تخسرها أميركا. توفي مكنمارا عن ثلاثة وتسعين عاماً بعدما تولى حقيبة الدفاع بين العامين 1961 و1968 وبعدما وصفه الرئيس الراحل جون كينيدي بأنه أذكى شخص عرفته. كان مكنمارا ذكياً بالفعل. كان رجلاً استثنائياً، لكنه أمضى النصف الثاني من عمره يتندم على دوره في الحرب التي خطط وساهم في الترويج لها، والتي لم يعرف أنها ستودي بحياة ستة عشر ألف جندي أميركي خلال فترة توليه وزارة الدفاع، وباثنين وأربعين ألفاً آخرين في السنوات التي تلت تركه البنتاغون.
في العام 1995، انتهى مكنمارا من كتابة مذكراته وقال فيها بصراحة إن حرب فيتنام كانت خطأ، بل كانت خطأ رهيباً. ما لم يقله مكنمارا، الذي تولى في العام 1968 رئاسة البنك الدولي بعدما شكك الرئيس ليندون جونسون بولائه له، إنه اكتشف باكراً أن حرب فيتنام خاسرة. لم يستطع مكنمارا الخروج إلى العلن وقول رأيه في الحرب. اكتفى بتوجيه رسائل إلى الرئيس ليندون جونسون الذي خلف جون كينيدي في تشرين الثاني من العام 1963 يشير فيها إلى أن الحرب التي تخوضها الولايات المتحدة في فيتنام من النوع الذي لا يمكن الانتصار فيه. وتؤكد وثائق رسمية أميركية أن مكنمارا اتصل في التاسع عشر من أيلول من العام 1966 بجونسون ليقول له إني مقتنع شخصياً أكثر من أي وقت بأن علينا وضع خطة تؤدي إلى وقف القصف الجوي لفيتنام الشمالية. وفي التاسع عشر من أيار 1967، وجه رسالة إلى الرئيس الأميركي يحضه فيها على البحث عن اتفاق سلام بدل تصعيد الحرب في فيتنام. ومما جاء في الرسالة: إن العداء الشعبي للحرب في تزايد مستمر. لكن رد فعل جونسون تمثل في دفع مكنمارا إلى الاستقالة، إذ أعتقد أنه يتآمر عليه، وأنه يعمل من أجل أن يكون روبرت كينيدي المرشح الديموقراطي للرئاسة بدلاً منه. وفي تشرين الثاني 1967، أعلن الرئيس الأميركي أن مكنمارا سيصبح رئيساً للبنك الدولي. وقد انتقل الرجل إلى منصبه الجديد مطلع العام 1968 وهو يتساءل: هل إني استقلت من منصبي كوزير للدفاع، أم طردت منه؟.
عاش مكنمارا ما تبقى من حياته الطويلة في ظل كوابيس حرب فيتنام التي كان يعرف مسبقاً أن الولايات المتحدة ستخسرها. وكان مهماً أن تكشف صحيفة نيويورك تايمز في متن المقال الذي كتبته عن مكنمارا، في مناسبة وفاته، أن الرئيس جونسون حصل على موافقة الكونغرس على الدخول في حرب فيتنام في خريف العام 1964 بعدما ادعى أن زوارق خفر السواحل الفيتنامية الشمالية هاجمت قطعاً حربية أميركية في خليج تونكين يوم الرابع من آب من العام نفسه. وتبين من الوثائق الأميركية الرسمية أن هذا الهجوم لم يحصل، وأن كل ما في الأمر أن القطع الحربية الأميركية فتحت النار على أهداف وهمية كانت في الواقع ظلال الرادارات المجهزة بها... ولكن ما العمل مع إدارة أميركية لم يعد لديها هاجس سوى فيتنام ومع رئيس أميركي يبحث عن عذر، أي عذر، لإعلان الحرب وفي أعتقاده أن سقوط فيتنام الجنوبية سيقود إلى سقوط المنطقة كلها في يد الاتحاد السوفياتي الذي كان يخوض في تلك المرحلة حرباً باردة مع القوة العظمى الأخرى التي إسمها الولايات المتحدة.
كانت وفاة مكنمارا مناسبة لفتح جروح حرب فيتنام التي لم يتجرأ على قول رأيه فيها عندما كان وزيراً للدفاع. هناك عشرات آلاف العائلات الأميركية تحمّل الرجل المسؤولية المباشرة عن مقتل أبنائها من دون سبب. لم يمتلك روبرت مكنمارا ما يكفي من الشجاعة لقول رأيه علناً في الوقت المناسب، أي في صيف العام 1966 عندما تلقي تقريراً من وكالة الاستخبارات المركزية ( سي.آي. أي) يؤكد أن ليس ما تستطيع أميركا عمله للانتصار في فيتنام.
بعد أقل من أربعين عاماً على انتهاء حرب فيتنام في العام 1975، وهي انتهت بهزيمة أميركية واضحة، تبدو الولايات المتحدة متجهة إلى فيتنام أخرى في أفغانستان حيث الحرب مستمرة منذ العام 2001، أي منذ ثماني سنوات تمثل ما يزيد بسنتين على ما استغرقته الحرب العالمية الثانية. ثمة حاجة هذه المرة إلى من يقول بصوت عالٍ داخل الولايات المتحدة نفسها ان لا انتصار أميركياً ممكناً في أفغانستان ما دامت هناك قاعدة خلفية تدعم طالبان انطلاقاً من باكستان، مثلما كانت هناك قاعدة خلفية إسمها الصين والاتحاد السوفياتي تدعم فيتنام الشمالية. كان روبرت مكنمارا رجلاً ذكياً بالفعل. لكن الذكاء شيء والشجاعة شيء آخر. ثمة حاجة حالياً إلى من يشرح للرئيس الأميركي باراك أوباما الأسباب التي تحول دون تحقيق انتصار في أفغانستان وأن عليه البحث عن مخرج خارج الحرب. هذه الأسباب لا تتعلق بطبيعة أفغانستان نفسها والتركيبة القبلية والعشائرية للبلد فحسب، ولا بالقاعدة الخلفية التي تمثلها باكستان المرشحة لأن تتحول إلى دولة فاشلة. يكمن السبب الأساسي الذي يحول دون الانتصار في أفغانستان في أخذ الجيش الأميركي إلى العراق من دون سبب وجيه قبل استكمال المهمة في أفغانستان بحجة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. تبين أن هذه الحجة لا تمت إلى الحقيقة بصلة... بل هي كذبة كبيرة على غرار مهاجمة القطع البحرية الأميركية في خليج تونكين في 1964. هل في واشنطن من يريد إجراء المقارنة والعمل من الآن على ايجاد مخرج من أفغانستان؟ هل هناك من يعترف بأن الشجاعة تأتي قبل الذكاء أحياناً وأن على من يمتلك حداً أدنى من الشجاعة الاعتراف بأنه من دون مخرج سريع من أفغانستان، تبدو تجربة فيتنام قابلة لأن تتكرر وكأنّ روبرت مكنمارا لا يزال حياً يرزق!

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00