يمكن اعتبار إرسال دمشق سفيرا إلى بيروت خطوة في الاتجاه الصحيح. أحتاجت سوريا ما يزيد على ستة عقود لإقامة علاقات طبيعية مع لبنان الذي استقل قبلها في العام 1943 وكي تتأكد من أن لا مفر من الإقدام على مثل هذه الخطوة. المهم الآن أن تكون النيات السورية تجاه لبنان نيات طيبة وأن لا يخفي إرسال السفير محاولات جديدة تستهدف ضرب الإستقرار في الوطن الصغير بهدف اثبات أنه لا يستطيع العيش من دون وصاية خارجية وأن وحدها الوصاية الخارجية تضمن السلم الأهلي في لبنان... وأن النظام السوري هو الوحيد القادر على تأمين هذه الوصاية.
مرة أخرى، لا يمكن إلاّ الترحيب بإرسال السفير السوري. وسيكون الترحيب مضاعفا مرات عدة في حال تبين أن النظام السوري تخلى عن أوهامه وأنه بات على استعداد للتصرف من منطلق إنه يتحكم ببلد ذي نظام متخلف على كل المستويات، إقتصاديا وإجتماعيا وأمنيا وسياسيا إسمه الجمهورية العربية السورية، وأن الجهود لا بد أن تنصب على إيجاد مكان لسوريا يليق بها على خريطة الشرق الأوسط.
الأكيد أن التغني بأمجاد الماضي، في حال كانت هناك أمجاد مرتبطة بالوجود العسكري السوري في لبنان، بما في ذلك أن لبنان لم يعرف الاستقرار إلا عندما كانت القوات السورية منتشرة على أرضه، لا يقدم ولا يؤخر. مثل هذا الكلام لا معنى حقيقيا له. إنه تعبير عن عجز عن التعاطي مع الواقع ودعوة إلى ارتكاب مزيد من الأخطاء في حق سوريا ولبنان والسوريين واللبنانيين. أكثر من ذلك، أن الحديث عن الدور السوري في لبنان من زاوية أنه كان دورا إيجابيا، لو لم ترتكب بعض الأخطاء، بمثابة دعوة إلى الغرق في الرمال المتحركة اللبنانية مجددا بما يعود بالضرر على البلدين الجارين ويصب في مصلحة اسرائيل.
هل يريد النظام السوري أن يتعلم شيئا من تجربته اللبنانية ومن اعتقاده، في مرحلة ما، أنه صار قادرا على ضم لبنان والسيطرة عليه تعويضا عن عجزه عن استعادة الجولان واضطراره إلى الاعتراف بخسارة لواء الأسكندرون الذي صار تركيا بعدما كان حتى الأمس القريب اللواء السليب؟ هذا هو السؤال الكبير المطروح حاليا. إن محاولة الإجابة عن هذا السؤال بشكل موضوعي ستجعل النظام السوري قادرا في المستقبل على تفادي الوقوع في أفخاخ من نوع تلك التي وقع فيها في الماضي القريب. إضافة إلى ذلك، أن مثل هذه المحاولة ستمكن النظام السوري من الإنصراف إلى معالجة المشاكل الحقيقية لسوريا بدل الاستمرار في عملية هروب مستمرة إلى أمام. في مقدم المشاكل التي تعاني منها سوريا النمو المتزايد لظاهرة التطرف الديني وغياب أي نوع من التخطيط الإقتصادي في ظل زيادة كبيرة للسكان والهجرة من الريف إلى المدن... وهذا مجرد غيض من فيض. في الإمكان وضع مجلدات عن المشاكل التي تعانيها سوريا بما في ذلك أن النظام فيها أنه قوة عظمى اقليمية وأنه قادر على ممارسة لعبة العرقلة على الصعيد الإقليمي إلى ما لا نهاية. لعلّ أفضل تعبير عن الفشل السوري، وهو فشل لسياسة عمرها ما يزيد على أربعة عقود، يتمثل في أن الميليشيا الإيرانية ذات العناصر اللبنانية التي اسمها حزب الله استطاعت ملء الفراغ الأمني الذي نجم عن الانسحاب العسكري السوري من لبنان. ستكون لهذا الفشل انعكاسات كارثية في المدى الطويل على سوريا ولبنان في آن نظرا إلى أن المشروع السياسي الوحيد لـحزب الله يصب في تحويل البلدين مجرد قاعدتين تابعتين لدولة فاشلة اسمها إيران يتحكم بها نظام يلتزم مذهبية متزمتة على تناقض تام مع كل ما يمكن تسميته عروبة منفتحة على تماس مع كل ما هو حضاري في العالم.
من أجل أن يكون هناك معنى ما لإرسال السفير السوري إلى لبنان، لا مفر من إعادة النظام السوري النظر في سياساته السابقة. لا يكفي المناداة بالمقاومة حتى تكون سوريا دولة ممانعة. الممانعة هنا ترتدي شكل الإنتهازية المبتذلة لا أكثر ولا أقل، ما دام المطلوب ممارسة المقاومة حتى آخر لبناني وآخر فلسطيني، فيما السكون يسيطر على جبهة الجولان منذ العام 1974. حبذا لو يستطيع النظام السوري إعادة النظر في سياسته تجاه لبنان بعيدا عن أي نوع من العقد. في استطاعته قبل أي شيء آخر العودة إلى الظروف التي خلقها بنفسه من أجل جعل الأميركيين ممثلين بشخص هنري كيسينجر يستعينون به للسيطرة على قوات منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان. استطاع الراحل حافظ الأسد، رحمه الله، التذاكي على الإدارة الأميركية والحصول على ضوء أخضر سمح له بالدخول عسكريا إلى لبنان. ماذا كانت نتيجة ذلك الدخول؟ هل عاد ذلك بفائدة ما على سوريا أو على لبنان؟ هل استفاد الفلسطينيون بشيء ما؟ ما الذي أدت إليه عملية وضع اليد على القرار السياسي اللبناني طوال ما يزيد على ربع قرن ومنع الفلسطينيين من ممارسة سياسة خاصة بهم وإغراقهم في حروب لبنان بما في ذلك دخول أزقة بيروت وزواريبها؟
الأمل ضئيل في إقدام النظر السوري على عملية نقد للذات تشمل القبول بعلاقات ندية بين البلدين وترك قضية الجرائم المرتكبة منذ العام 1974 وفي مقدمها جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه للمحكمة الدولية من دون السعي يوميا إلى عرقلة عملها. ما يشير إلى ذلك نوع الذين يتحالف معهم النظام السوري في لبنان. قل لي من تعاشر أقل لك من أنت!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.