8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

اللبنانيون صنعوا المحكمة الدولية...

صارت المحكمة الدولية واقعا. إنها المحكمة التي ستنظر في قضية أغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وفي الاغتيالات والتفجيرات ومحاولات الاغتيال الأخرى التي شهدها لبنان في الفترة الممتدة من محاولة اغتيال الوزير مروان حماده في الاول من تشرين الأول ـ أكتوبر 2004 الى اغتيال الرائد وسام عيد قبل ثلاثة عشر شهرا. المهم الآن أن تبدأ المحاكمة. هناك فارق بين المحكمة والمحاكمة. قيام المحكمة يشير الى وجود رغبة دولية وإرادة حقيقية هدفهما وضع حدّ للجرائم التي يتعرض لها اللبنانيون الشرفاء منذ فترة طويلة. والمحاكمة تشير الى أن الرغبة والارادة تتجاوزان وقف الجرائم ووضع حد لها ... الى توفير حماية للبنان وتأكيد أن المجتمع الدولي على استعداد للذهاب بعيدا في عملية تستهدف الانتهاء من لبنان الساحة، اي لبنان الذي يرحب بكل من يريد تصفية حساباته مع طرف آخر في الشرق الأوسط على أرضه.
ليس سرا أن دم رفيق الحريري غيّر المعادلة الشرق اوسطية. كان رفيق الحريري على حق عندما قال للذين حذروه من ان طرفاً معروفاً سيغتاله إن من سيقدم على اغتيالي مجنون. وكان يضيف موجهاً كلامه الى السائل صاحب التحذير: هل النظام الذي تشير اليه مجنون؟ كان رفيق الحريري يحاول بكل الوسائل حماية النظام الذي يريد إغتياله وذلك من زاوية حرصه على الاستقرار الأقليمي وحرصه على سوريا وعلى لبنان... على السوريين واللبنانيين ولكن ما العمل مع نظام مجنون، كما كان يقول رفيق الحريري، نظام لا يدرك عواقب جريمة من هذا النوع ويعتقد ان في استطاعته تغطيتها بجريمة أخرى. منذ متى تصلح الجريمة لتغطية جريمة أخرى؟ فات من اغتال رفيق الحريري ان هذه المعادلة لم تعد صالحة في بداية القرن الواحد العشرين. ربما كانت صالحة في العام 1977 لدى اغتيال كمال جنبلاط أو في العام 1982 لدى اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل وفي العام 1989 لدى اغتيال الرئيس رينيه معوض الذي منعه ميشال عون من الوصول الى قصر بعبدا حيث كان في الامكان حمايته وحماية اتفاق الطائف الحقيقي الذي كان يجسّده رينيه معوض.
كانت الجريمة تصلح لتغطية جريمة اخرى في ايام غابرة عندما اغتيل المفتي حسن خالد وغيره من كبار رجالات لبنان. لم يعد ذلك وارداً حالياً. الدليل ان الجرائم التي ارتكبت منذ الرابع عشر من شباط ـ فبراير 2005 دخلت في سياق المحكمة الدولية التي تشمل صلاحياتها كل الأحداث المؤلمة التي تلت اغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما وحتى ما سبق ذلك.
يمكن القول ان العالم تغيّر. ولأنّ العالم تغيّر لم يعد مسموحاً بإغتيال رجل في حجم رفيق الحريري من دون ان تكون هناك محكمة ثمّ محاكمة. ولكن ما تغيّر ايضا هو لبنان. فاجأ لبنان الذين اغتالوا رفيق الحريري. لم يكن هناك من يتوقع صمود اللبنانيين بهذا الشكل وصلابتهم في وجه الهجمة العاتية على بلدهم. لم يكن هناك من يتخيّل أن اللبنانيين سيردون على تظاهرة الثامن من آذار التي استهدفت ارهابهم بتظاهرة الرابع عشر من آذار التي استهدفت تحريريهم.
لا بدّ من العودة دائما ألى ما حصل في الجلسة الأولى لمجلس الوزراء بعد اغتيال رفيق الحريري. كان همّ الرئيس اميل لحود في تلك الجلسة ازالة المعالم من ساحة الجريمة واعادة فتح الطريق. فضح اميل لحود المنفذين الذين اعتقدوا أن اسبوعاً سيكون كافياً كي ينسى العالم ولبنان قضية في حجم اغتيال رفيق الحريري. نعم العالم تغيّر، لكن اللبنانيين تغيروا ايضا. واجه اللبنانيون أشرس حملة استهدفتهم واستهدفت بلدهم نظرا الى انهم تجرّأوا على القتلة وأصروا عل كشف الجريمة وتعرية المجرمين. واجهوا الاغتيالات التي طالت سمير قصير أولاً ثم جورج حاوي وجبران تويني وبيار أمين الجميل ووليد عيدو وانطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والرائد وسام عيد. وواجهوا التفجيرات المتنقلة وواجهوا محاولات الأغتيال التي استهدفت مروان حماده والياس المر وميّ شدياق والرائد سمير شحادة. وواجهوا حرب صيف العام 2006 واستقالة الوزراء المنتمين الى أمل وحزب الله وواجهوا احتلال وسط العاصمة لتعطيل الحياة في البلد استكمالاً للعدوان الإسرائيلي. وواجهوا ادوات الأدوات كتلك النكتة السمجة التي اسمها الجنرال. وواجهوا الأعتداءات على الجيش أكان ذلك في مار مخايل او مخيم نهر البارد او في سجد حيث أستشهد الطيار سامر حنا. وواجهوا غزوة بيروت والجبل التي خلقت شرخاً مذهبياً لم تكن إسرائيل تحلم بأنه سيتحقق يوما وسيكون بهذا العمق.
المحكمة صنعها اللبنانيون وهي ثمرة صمودهم، صمود سعد الحريري وفؤاد السنيورة وحكومته وكل وزير من الوزراء الأبطال الذين رفضوا الاستقالة والرضوخ للتهديد. انه صمود وليد كمال جنبلاط وأمين بيار الجميل ونسيب لحود والمفتي علي الأمين والدكتور سمير جعجع ودوري شمعون وبطرس حرب وباسم السبع وعشرات آخرين من الشخصيات التي وضعت دمها على كفها من اجل ألا يرضخ لبنان ويسقط مرة أخرى تحت الوصاية. هؤلاء هم المقاومون الحقيقيون الذين يبنون بلداً يعيش فيه اللبناني حراً كريماً سيّداً بدل أن يكون تحت رحمة النظام الايراني الطامح الى المتاجرة بكل لبناني وبكل قطعة ارض في لبنان والمساومة عليها مع إسرائيل ومن يقف وراء إسرائيل.
لولا اللبنانيين لما كانت محكمة. لولا اللبنانيين لن تكون هناك محاكمة. من جاء بالمحكمة يصنع التاريخ لا أكثر ولا أقل. من كان يصدّق ان لبنان سيصمد؟ من كان يصدّق أن العسكري السوري سيخرج يوماً من الأراضي اللبنانية؟ من كان يصدّق ما هو أهم من ذلك بكثير. سيكون هناك شرق أوسط جديد في السنوات المقبلة، لكن هذا الشرق الأوسط لن يكون على حساب لبنان. المحكمة خطوة على طريق تثبيت حق لبنان واللبنانيين في الحياة والبقاء!

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00