بدل التلهي بموازنة مجلس الجنوب هربا من طرح المشاكل الحقيقية التي يعاني منها لبنان من جهة وسعيا الى الانتقام من رجل دولة اسمه فؤاد السنيورة من جهة اخرى، يفترض في سياسي محنك في مستوى الرئيس نبيه بري التعاطي مع الواقع اوّلا. يتمثل الواقع في الوضع الذي يعاني منه الجنوب منذ فترة طويلة، خصوصا منذ العام 1969 تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي حول لبنان ساحة للتجاذبات الاقليمية وحول الجنوب ارضا مستباحة واهل الجنوب مادة يتاجر بها هذا السياسي او ذاك فيما يدفع المواطنون ثمن كل ذلك من دمهم وارزاقهم ومستقبل ابنائهم.
لا يمكن تغطية الفضيحة التي اسمها موازنة مجلس الجنوب عن طريق الشتائم والكلام النابي ورفع الصوت والتخوين. على العكس من ذلك، يمكن الانطلاق من الحادث الاخير، حادث اطلاق صاروخين من الجنوب في اتجاه مستعمرة معلوت الاسرائيلية لطرح اسئلة جريئة مرتبطة بوضع الجنوب واهل الجنوب ومستقبلهم بدل افتعال مشكلة اسمها موازنة مجلس الجنوب.
يحصل ما يجب ان لا يحصل بتاتا، اي اثارة موضوع موازنة مجلس الجنوب، كما لو ان المطلوب ان تخصص الحكومة اللبنانية مبلغا معينا لاحدى الميليشيات اللبنانية تصرفه على عناصرها بعيدا عن اي رغبة حقيقية في التنمية والبحث في كيفية تطوير تلك المنطقة العزيزة على قلب كل لبناني والتي ان اوان ان تستريح وتعمل على تطوير نفسها واستغلال ما فيها من ثروات طبيعية على راسها الثروة البشرية.
ان اوان التوقف عن المتاجرة بموازنة صندوق الجنوب للتغطية على المتاجرة باهل الجنوب. من يريد بالفعل الخير للجنوب واهل الجنوب، يرفع الصوت عاليا مطالبا بكشف من يقف وراء الصواريخ المجهولة التي تطلق منذ فترة من تلك المنطقة في اتجاه شمال فلسطين كما لو ان المطلوب حصول رد اسرائيلي على لبنان والتاكيد لكل من يعنيه الامر ان جبهة الجنوب اللبناني لا تزال مفتوحة. هل من جريمة اكبر من هذه الجريمة ترتكب في حق لبنان واللبنانيين والجنوب والجنوبيين من كل الطوائف والمذاهب؟
في اساس مشكلة الجنوب تخلّي الدولة اللبنانية تحت الضغوط العربية عن هذه المنطقة وترك المنظمات الفلسطينية تشن عمليات انطلاقا منها في وقت سكتت كل الجبهات العربية الاخرى. مارست اسرائيل عدوانها على المنطقة ولما انسحبت في العام 2000 تنفيذا للقرار الرقم 425 الذي صدر في العام 1978، ابى حزب الله بناء على رغبة سورية وايرانية الا ان يبقي الجبهة مفتوحة. مطلوب بكل بساطة ان يكون هناك من يتاجر بالجنوب واهل الجنوب بعيدا عن اي منطق من اي نوع كان. لا شك ان الرئيس بري في وضع محرج نظرا الى قرب موعد الانتخابات النيابية والى وضعه كلاجئ سياسي عند حزب الله، لكن ذلك يجب ان لا يمنعه من التعاطي بهدوء مع الحكومة ومع رئيس مجلس الوزراء ووزير المال السيد محمد شطح تحديدا. يفترض برئيس مجلس النواب امتلاك ما يكفي من الشجاعة للاعتراف بان مشكلته في مكان آخر. مشكلته عند الذين يريدون ان يكون الجنوب منصة لاطلاق الصواريخ فيما جبهة الجولان مغلقة منذ العام 1974. ليقل الرئيس بري ونوابه الاشاوس ان المواقع والمناصب ليست مهمة وان المهم المحافظة على الجنوب. ليقفوا وقفة رجل واحد ويعلنوا بأعلى الصوت ان الجنوب في حاجة الى هدوء، وليس الى حرب مفتعلة مثل حرب صيف العام 2006 التي لم يشف منها حتى الان. ويحتاج ايضا الى تنفيذ القرار الرقم 1701 بحذافيره والى التمسك بالقرار وليس الى مزيد من الاسلحة والمسلحين والصواريخ ومن يطلق صواريخ لاثبات ان ايران على تماس مع اسرائيل وانها دولة مطلة على البحر المتوسط عبر تحكمها بالجنوب وارض الجنوب واهل الجنوب.
ثمة من سيقول ان اسرائيل تعتدي على لبنان منذ ما قبل توقيع اتفاق القاهرة. الرد على هؤلاء في منتهى البساطة. على لبنان الامتناع عن تقديم اي تبرير من اي نوع كان لاسرائيل. في النهاية، عرف لبنان كيف يحافظ على ارضه في العام 1967 لان الحكم فيه التزم الحكمة. اما اسرائيل، فان كل ما تتمناه هو ان يكون هناك انتشار مسلح في الجنوب حتى تجد مدخلا تنفذ منه لضرب الاستقرار والسلم الاهلي في لبنان...هذا ليس سرا. ان السر غير المفهوم هو كيف يقبل لبناني التواطؤ مع اسرائيل والسماح لها بتنفيذ ما تريده في لبنان؟
لا يمكن لوم الرئيس بري احيانا. لا بدّ من تفهمّ لحجم الضغوط التي يتعرض لها. لكن ذلك لا يحول دون مطالبته بتوجيه سهامه الى حيث يجب ان توجه. هذه السهام يجب ان توجه الى السلاح غير الشرعي. في اساس كل مصائب الجنوب ولبنان السلاح غير الشرعي. هل صدفة ان اسرائيل اعترضت في العام 1976 على وصول قوات الردع العربية الى خط وقف النار في الجنوب بحجة انها في حاجة الى مناوشات مع المسلحين الفلسطينيين بين الحين والاخر؟ هل صدفة ان يكون النظام السوري نفسه اعترض في العام 1996 على انتشار الجيش اللبناني في الجنوب؟ هل صدفة اختلاق قضية مزارع شبعا بعد الانسحاب الاسرائيلي في العام 2000... كي يبقى الجنوب ينزف؟
المسألة ليست مسالة موازنة صندوق الجنوب. المسالة مرتبطة بامتلاك حد أدنى من الشجاعة والصدق مع النفس للقول ان المشكلة في مكان آخر... لا اكثر ولا أقل.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.