كان لبنان وفياً لرفيق الحريري. الأوفياء لا يتنكرون للوفاء أو للأوفياء. كان أهل بيروت أوفياء لبيروت ولمن أعاد الحياة الى مدينتهم وحولها الى قلب لبنان النابض الرافض للفكر الأسود والتخلف. لذلك كان رد معتنقي ثقافة الموت على المشاركة الكثيفة في ذكرى الرابع عشر من شباط، ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري عن طريق هجمات على الذين حضروا الى بيروت لتكريم الرجل الذي أعاد لبنان الى خريطة المنطقة والعالم بفضل صبره ومثابرته ووطنيته وعروبته الصادقة أوّلاً. شاء الذين اعتدوا على اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق، من الذين شاركوا في إحياء ذكرى الرابع عشر من شباط توجيه رسالة فحواها إن بيروت لا تزال محتلة وإن الجحافل المسلحة التي اجتاحت العاصمة وحاولت الاعتداء على الجبل ما زالت مصرّة على متابعة مخططها الهادف الى تأكيد أن بيروت لم تعد لأهل بيروت. فات هؤلاء أن بيروت ردّت على هؤلاء سلفاً. ردّت عندما تحدى اللبنانيون الخوف وكرروا المشهد العظيم، مشهد الرابع عشر من آذار 2005. كرروه في الرابع عشر من شباط 2009 ليبعثوا برسالة ملخصها أن ثقافة الحياة لا يمكن إلا أن تنتصر على ثقافة الموت.
لعل أهم ما في مشهد الرابع عشر من شباط 2009، أن بيروت جمعت اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب. جمعت المسيحيين والمسلمين الذين جاؤوا لتكريم الشهداء والشهداء الأحياء. الشهداء، من رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما وصولاً الى الضابط الطيار سامر حنا مروراً بسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار أمين الجميّل وانطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والرائد وسام عيد وجميع شهداء الجيش الوطني. والشهداء الأحياء، من مروان حماده الى الياس المر والرائد سمير شحاده وصولاً الى الزميلة مي شدياق. لذلك، جاء الرد على الحدث الضخم عن طريق العنف.
أكثر من ذلك، يبدو اللجوء الى العنف للرد على الرابع عشر من شباط بمثابة رسالة تقول إن السلم الأهلي في لبنان مهدد كل يوم ما دام اللبنانيون يصرون على السيادة والحرية والاستقلال وعلى إعادة بناء الدولة. هناك بكل بساطة من يريد دولة في لبنان. هناك من يريد العودة الى الدولة. ولذلك استفز حشد الرابع عشر من شباط رافضي العودة الى الدولة ورافضي العمل من أجل بناء الدولة. إنهم رافضون لمشروع البناء والإعمار الذي عمل من أجله رفيق الحريري، الرجل الرجل الذي بذل حياته من أجل وطنه ومن أجل أن يكون اللبنانيون متصالحين مع انفسهم أوّلاً.
لا يمكن في أي شكل الاستخفاف بالأحداث التي تلت ذكرى الرابع عشر من شباط. لا يمكن الاستخفاف بما حصل، خصوصاً بعد استشهاد المواطن لطفي زين الدين من بلدة الشبانية حيث العيش المشترك الحقيقي بين اللبنانيين من دروز ومسيحيين منذ مئات السنين. علينا أن نتذكّر أن الشبانية مسقط رأس الرئيس الياس سركيس، رحمه الله، الذي كان رمزاً للاعتدال. بذل الياس سركيس في السنوات الست التي تولى فيها الرئاسة كل ما يستطيع لوضع حد للحرب الداخلية وللمحافظة على مؤسسات الدولة اللبنانية. لا شك أن قتل المواطن اللبناني رسالة الى الدولة قبل أي شيء آخر. هناك فئة لا تريد الدولة. هذه الفئة تعرف أن الذين شاركوا في الرابع عشر من شباط يمثلون الراغبة الجامحة لدى معظم اللبنانيين في الانضواء تحت جناحي الدولة. كلما ظهرت هذه الرغبة واضحة وكلما عبّر عنها اللبنانيون بقوة، يأتي من يذكرهم بأن ذلك محظور عليهم. من قتل المواطن لطفي زين الدين أراد القول إن غزوة بيروت مستمرة... وإن الفاشية لا هوية لها ولا طائفة ولا تؤمن سوى بالعنف وسيلة لتحقيق أهدافها.
قاوم اللبنانيون وما زالوا يقاومون وسيستمرون في المقاومة. إنها بالطبع المقاومة الحقيقية التي لا علاقة لها بحمل السلاح واجتياح بيروت والجبل ولا بالتذرع بإسرائيل لإقامة دويلة داخل الدولة اللبنانية هي في الواقع رأس حربة للمحور الإيراني- السوري. ما قاله وليد جنبلاط في الشبانية يمثل المقاومة الحقيقية. كانت دعوته الى التحلي بالهدوء والتعقل بمثابة دعوة الى تفادي الوقوع في الفخ الذي نصبه القتلة، أولئك الذين اعتدوا بالعصي والسكاكين والجنازير على الشرفاء حقا الذين شاركوا في إحياء ذكرى رفيق الحريري.
القتلة هم أنفسهم. إنهم الخائفون من المحكمة الدولية التي ستصبح حقيقة في غضون عشرة أيام. المهم عدم الانجرار الى لعبتهم. هناك صغار القتلة وهناك كبار القتلة. ما يجمع بين هؤلاء معاداة كل ما له علاقة بالحرية والسيادة والاستقلال والحضارة، أي معاداة حركة الرابع عشر من آذار التي أظهرت في الرابع عشر من شباط 2009 أنها حية أكثر من أي وقت. الصغار الذين قتلوا لطفي زين الدين كشفوا لعبة الكبار. كشفوا كم أنهم متضايقون من تمسك اللبنانيين بثورة الأرز ومدى ذعر الذين يوجهونهم من الخارج من المحكمة الدولية. المهم الآن عدم السقوط في لعبتهم. المهم التهدئة مع الاقتناع بأن درب استعادة لبنان حريته واستقلاله لا يزال طويلاً. المعركة التي بدأت منذ ما قبل استشهاد رفيق الحريري معركة قاسية وشاقة وصعبة. إنها معركة الاستقلال الثاني، معركة أن يكون لبنان أو لا يكون، معركة الدولة اللبنانية بكل معنى الكلمة، معركة خروج لبنان من وضع الساحة. إنه الوضع الذي يحاول فرضه بالقوة على الوطن الصغير بعض العرب وغير العرب الساعين حالياً الى تنفيذ أجندتهم في المنطقة على حساب كل ما هو عربي فيها!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.