بعيدا عن المزايدات والشعارات التي رفعت في هذه العاصمة أو المدينة العربية أو تلك، بعد الضربة الوحشية التي وجهتها إسرائيل إلى غزة، لا بدّ من التفكير في هدوء في ما يمكن أن يخرج تلك المنطقة الفلسطينية ذات المساحة الضيقة والمكتظة بالسكان من الوضع الذي تعاني منه. بكلام أوضح، مطلوب إيجاد أفق سياسي لغزة وللوضع الفلسطيني برمته بما يحقق الطموحات والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الذي عانى ويعاني من الاحتلال. يعاني هذا الشعب قبل كل شيء من أنه تحول وقودا في معارك اقليمية لا علاقة له بها، لكنها تخاض على حسابه، كما لو أن قدره التضحية بأعز ما لديه، أي بدم أبنائه، من أجل أن يحقق هذا الطرف العربي أو الايراني مكاسب تسمح له بالتفاوض من موقع أفضل مع إسرائيل أو مع الادارة الأميركية الجديدة.
من أجل أن يتوقف الفلسطينيون عن دفع ثمن معارك لا علاقة لهم بها، ثمة حاجة إلى وقفة صادقة مع النفس تتجاوز الأهداف السياسية المستحيلة لهذا الطرف أو ذاك. مثل هذه الوقفة تساعد في تفادي استمرار المجزرة التي تنفذها إسرائيل فيما العالم يتفرج. ليس صدفة أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تجاهل التفاوت الكبير بين الصواريخ المضحكة- المبكية التي تطلقها حماس وغير حماس من غزة على بلدات إسرائيلية من جهة وبين القصف العشوائي الذي تمارسه الدولة العبرية والذي أدى إلى سقوط مئات القتلى من جهة أخرى. العالم لا يرى، للأسف الشديد، سوى بعين واحدة. أنه يرى أن حماس تطلق صواريخ على تجمعات سكنية إسرائيلية لأسباب لا مبرر لها في وقت أنسحب الاحتلال من كل قطاع غزة. هذا هو الواقع الذي لا بدّ من الاعتراف به والذي يختصر بسؤال واحد يتسّم بالبساطة يطرحه العالم على نفسه من دون أن يجد له جوابا. هذا السؤال هو الآتي: لماذا الاستمرار في إطلاق الصواريخ بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة صيف العام 2005. أكثر من ذلك، لماذا الإصرار على الحديث عن مقاومة في غزة في وقت أنسحب الاحتلال منها بما يسمح للجانب الفلسطيني بتحويل غزة إلى نموذج لما يمكن أن تكون عليه دولة فلسطينية مسالمة قابلة للحياة تشكل جزءا لا يتجزأ من الشرق الأوسط الجديد. أنه الشرق الأوسط الذي لا مكان فيه لحروب ولاحتلال، شرق أوسط ينعم بالسلام مثله مثل الكثير من المناطق في العالم. لماذا اضاعة فرصة غزة التي تحررت من الاحتلال بدل استخدام غزة في توفير مبررات لإسرائيل كي تقول للعالم أن الفلسطينيين لا يستحقون دولة وأن الدليل على ذلك الطريقة التي تصرفوا بها بعد الانسحاب الإسرائيلي من كامل القطاع.
لا بدّ من العودة إلى المنطق في أسرع وقت ممكن لوقف حمام الدم في غزة. والمنطق يقول أن هناك مشروعا سياسيا فلسطينيا يمكن تسويقه لدى المجتمع الدولي انطلاقا من غزة. يستند المشروع إلى أن فشل مشروع حماس في غزة. ويقوم هذا المشروع على الاعتراف بالفشل على كل الصعد. قبل كل شيء، لم تستطع حماس منذ الانقلاب الذي نفّذته في القطاع سوى توجيه ضربة إلى طموحات الشعب الفلسطيني الساعي إلى إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. لم تستطع حماس حتى إقامة علاقات طبيعية مع مصر. من يفشل في إقامة مثل هذا النوع من العلاقات مع الجار العربي الأقرب، لا يتوقع منه شيء على الصعيد الفلسطيني ولا يتوقع منه خصوصا سوى خدمة إسرائيل في سعيها إلى تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية. فعلت حماس ذلك من حيث تدري أو لا تدري، نظرا إلى انها اتخذت قرارا لا يمت بصلة من بعيد أو قريب إلى المصلحة الفلسطينية. قضى القرار الذي فرض على حماس من طهران ودمشق بإقامة كيان فلسطيني مستقل لا علاقة له بالضفة الغربية اسمه حماستان. هل يمكن أن تكتب حياة لمثل هذا الكيان؟ كان مفترضا بـحماس أن تطرح على نفسها هذا السؤال منذ ما قبل تنفيذ انقلابها على الشرعية الفلسطينية.
هذا ليس وقت محاسبة حماس على ما ارتكبته في حق الشعب الفلسطيني وقضيته. بل وقت تسمية الأشياء بأسمائها عن طريق تأكيد أن ما يجب عمله التوقف عن ممارسة عملية الهروب إلى الأمام. الاتهامات الموجهة إلى مصر هروب إلى الأمام. الاتهامات الموجهة إلى العرب عموما هروب إلى الأمام لا أكثر. من يتوقع من العرب شيئا في غزة، مجرد جاهل لا علاقة له بالسياسة أو بما يدور في المنطقة... أو بتوازن القوى على الصعيدين الاقليمي والدولي. في حال كانت حماس حريصة فعلا على الشعب الفلسطيني وقضيته ولا تريد أن تستخدم في تصفية حسابات مع هذه الدولة العربية أو تلك، بناء على تعليمات ايرانية وسورية، فان الخطوة الأولى التي يتوجب عليها القيام بها تتمثل في الاعتراف بالفشل. ما يدعو إلى الاعتراف بالفشل أن الصواريخ التي تطلق من غزة ليست بديلا من مشروع سياسي يمكن تسويقه في العالم. متى تقبل حماس بهذه الحقيقة، يصير سهلا عليها اتخاذ قرار بالانضواء تحت الشرعية الفلسطينية.
ما تسبب في وصول الوضع في غزة إلى ما وصل اليه عدم امتلاك حماس لمشروع سياسي غير الصواريخ. لا شك أن إسرائيل سترحب بالصواريخ بمقدار ما أنها تسمح لها بالقول أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. لغة الصواريخ خدمة لإسرائيل. من هنا البداية. انها بداية المقاومة الحقيقية للاحتلال بواسطة مشروع سياسي مقبول من المجتمع الدولي هو ذلك الذي نادت ولا تزال تنادي به السلطة الوطنية الفلسطينية التي تقاوم الاحتلال بالأفعال وليس بالشعارات والتظاهرات ولغة التخوين التي عفا عنها الزمن...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.