كل ما في الأمر أن جبران تويني لم يعتذر من قاتله. في الذكرى الثالثة لاستشهاده، وقف جبران وقال، كما عوّدنا دائما وأبداً، ما يجب قوله في مثل هذه المناسبة. قال بكل بساطة بلسان نايلة تويني إن النهار لن تركع وإنها على العهد. أنه العهد الذي قطعه الاستقلاليون اللبنانيون على أنفسهم القاضي بمتابعة النضال من أجل الاستقلال الثاني الذي أستشهد من أجله رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما وسمير قصير وجورج حاوي وبيار أمين الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والرائد وسام عيد وآخرون من اللبنانيين الشرفاء من رجال الجيش اللبناني الذين ارتكبوا اثم الدفاع عن لبنان والمناداة بالحرية والسيادة والاستقلال ومواجهة الإرهاب بكل أقنعته.
تكمن أهمية الذكرى الثالثة لاستشهاد جبران تويني في أنها أكدت مجدداً ان اللبنانيين لن يتراجعوا عن متابعة مسيرة الاستقلال والعمل من أجل بناء دولة المؤسسات حيث لا سلاح خارج اطار الشرعية اللبنانية. سلاح واحد لا سلاحان على الأرض اللبنانية. كل سلاح خارج عن الشرعية سلاح في خدمة أعداء لبنان واللبنانيين وفي خدمة الفتنة والشرذمة وإيقاظ الغرائز المذهبية. ولذلك، كان جبران حريصاً على التذكير بأحداث السابع من أيار الماضي وبغزوة بيروت وما أثارته من مخاوف على صعيد اللحمة الوطنية التي تجسّدها العاصمة بكل أهلها المنتمين إلى كل الطوائف والمذاهب. كانت غزوة بيروت اعتداء صارخاً على الوحدة الوطنية وعلى كل ما هو حضاري في لبنان. كانت تعبيراً عن الرغبة في ضرب صيغة العيش المشترك بين اللبنانيين وإعادة البلد سنوات إلى خلف، أي إلى أيام التهجير والخطف على الهوية والاعتداء على الآخر من منطلق طائفي والسعي إلى كمْ أفواه الصحافة وتقييدها.
لم يسكت جبران عن أي تجاوز. لم يسكت على ما يرتكبه النائب ميشال عون من كبائر في حق اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً. أكتفى بتذكيره، من دون أن يلفظ اسمه، بأن ليس بمثل هذا النوع من الزيارات تقوم علاقات ندية بين سوريا ولبنان. والأهم من ذلك كله، كان تأكيد جبران لمن يقوم بمثل هذه الزيارات ان هذه الألاعيب السورية التي أتقنها النظام في دمشق لا تنطلي على أحد. ولا تنطلي خصوصاً على شخص عرف منذ البداية مَنْ سيكون قاتله ولماذا سيُقتل. أليس الوقوف مع لبنان والعمل في سبيل استنهاض اللبنانيين والمشاركة في ثورة الأرز سببين كافيين ليتحول الأنسان شهيداً، خصوصاً عندما يكون هذا الانسان في موقع يسمح له بتسمية الأشياء بأسمائها عبر النهار كما كان يفعل جبران؟
كان كلام جبران في الذكرى الثالث لاستشهاده كلام من يعرف تماماً لماذا استشهد رفيق الحريري. يعرف تماماً أن رفيق الحريري استشهد لأنه أعاد لبنان إلى الخريطة، خريطة الشرق الأوسط وخريطة العالم، استشهد لأنه أعاد بناء بيروت. بنى الحجر وبنى الإنسان. أعاد اللبنانيين إلى لبنان وأسّس حزب لبنان. هذا الحزب الذي نزل إلى الشارع في الرابع عشر من آذار 2005 بقيادة جبران ورفاقه وأخرج القوات السورية من الأراضي اللبنانية، في انتظار اليوم الذي لن يعود فيه وجود عسكري وأمني سوري أو غير سوري على أي بقعة من الأراضي اللبنانية كما الحال عليه الآن.
في الذكرى الثالثة لاستشهاده، كان جبران تويني حاضراً أكثر من أي وقت. كان يتلو مرة أخرى وليست أخيرة فعل إيمان بلبنان. كان يقول إن دماء الشهداء لم تذهب هدرًا وإن القاتل معروف وإن المحكمة الدولية آتية لا محالة وإن على اللبنانيين أن لا يخافوا. مَنْ عليه أن يخاف هو القاتل وليس الشهيد وان الدم لا يمكن إلا أن ينتصر على السيف مهما طال الزمن ومهما صعبت الظروف وزادت تعقيداً.
لم ينس جبران الظلم الذي يعانيه ذوو المفقودين في السجون السورية. لم يفعل كغيره من الذين زاروا دمشق أخيرا وساروا على سجادة حمراء صبغتها دماء شهداء الجيش اللبناني. رفض المتاجرة بدماء الشهداء والمفقودين. إنه جبران الذي رفض دائماً الشعوذة والمشعوذين. إنه جبران الذي يعرف أن لا مستقبل لمسيحيي لبنان من دون مصالحة في ما بينهم بعيداً عن الشروط التعجيزية. هذه الشروط ليست في النهاية سوى مبررات لرفض المصالحة، لا لشيء سوى لأن النظام السوري يكره كل شيء أسمه مصالحة بين لبناني وآخر من أي طائفة أو مذهب أو حزب كان. كيف يمكنه تحمّل مصالحة مسيحية ـ مسيحية؟ مثل هذه المصالحة يجب أن تكون من سابع المستحيلات بالنسبة إليه. هذا ما أدركه جبران دائماً وهذا ما جعله يسعى دائماً الى المصالحات في بلد لا يقوم إلا على التسويات والتفاهمات.
لم تكن تلك الذكرى ذكرى غياب جبران. كانت ذكرى عودته. أطلّ من جديد. أطلّ أقوى من أي وقت بخطاب فيه كل التماسك والجرأة والشجاعة. انها الصفات التي حوّلته رمزاً لشباب لبنان في معركة الاستقلال الثاني. كان غسّان تويني على حق عندما صدرت النهار في اليوم الذي تلا استشهاد جبران بمانشيت خطها الأستاذ غسّان بيده هي جبران لم يمت والنهار باقية. كان جبران مرة أخرى عند حسن ظن والده. أثبت أنه لم يمت وأثبت أن النهار باقية على أصالتها وأنها رأس حربة في معركة الاستقلال الثاني، كما كانت في معركة الاستقلال الأوّل وفي مواجهة الظلم والظلام والظلامية.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.