ليس سراً أن اغتيال الشيخ صالح العريضي في بيصور يأتي في سياق سلسلة الجرائم التي تعرض لها اللبنانيون الشرفاء، الشرفاء فعلا، في مرحلة ما بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. أنها الطريقة نفسها التي أغتيل بها الحبيب سمير قصير والمناضل العربي جورج حاوي. كذلك، هي الطريقة ذاتها التي اعتمدت لمحاولة اغتيال الزميلة مي شدياق التي نجت من الموت بأعجوبة وما زالت تتلقى تهديدات بسبب وقوفها مع الحرية والأحرار ومع لبنان أوّلا. تشير جريمة بيصور بكل بساطة إلى أن هناك مجموعة كانت قادرة على مراقبة العريضي عن كثب طوال فترة لا بأس بها تمهيدا لزرع العبوة في السيارة حيث يجب، التي كان الشيخ الدرزي يقودها بنفسه. تلك المجموعة ليست سوى الأداة.
الأداة ليست مهمة بمقدار أهمية من يستخدم الأداة. كان مطلوبا أداة تستطيع التحرك في بيصور تحديداً من دون إثارة شبهات. في النهاية بيصور بلدة درزية صغيرة ومغلقة ومعروف من يدخلها ومن يخرج منها ومن يتجسس على من فيها.
لا حاجة إلى تسمية الأشياء بأسمائها. كان مطلوبا ارتكاب الجريمة في بيصور لخلق فتنة درزية ـ درزية بعدما تبين أن طائفة الموحدين تمتلك حسا وطنيا يجعلها قادرة على الاستفادة من تجارب الماضي القريب والتعلم منها. وهذا ما حصل بالفعل عندما تصدى الجبل الدرزي بكل مكوناته لغزوة السابع والثامن من أيار الماضي التي ترافقت مع غزوة بيروت. رفض الدروز وقتذاك أن يكون هناك طابور خامس في وسطهم. وقفوا وقفة الرجل الواحد الأحد في وجه الغزاة وأسقطوا بذلك مشروع سقوط الجبل في يد المحور الايراني ـ السوري عبر ميليشيا "حزب الله" التي تُستخدم في جعل لبنان امتداداً لهذا المحور.
لم تسقط القيادات الدرزية في التجربة. امتلك الوزير طلال أرسلان ما يكفي من الحكمة ليقول أن "الرسالة وصلت" ويستتبع ذلك بخطاب يرضي "حزب الله" وأسياده في طهران كما يرضي النظام السوري الذي لا همّ لديه سوى الادعاء أن هناك دروزاً تابعين له أكان ذلك في سوريا نفسها أو في لبنان أو في الجولان المحتل ... أو في الجليل. أنه نظام يخلط بين طائفة الموحدين الدروز الكريمة ومواقفها التاريخية المشرفة ودفاعها عن العروبة الصادقة الحقيقية من جهة وبائسين ارتضوا أن يكونوا أقلّ من تابعين لأجهزته أو للميليشيا الايرانية التي اسمها "حزب الله" من جهة أخرى.
أبعد من جريمة بيصور والموقف الدرزي الموحد الذي يشدد على مرحلة جديدة بين الزعامتين التقليديتين للطائفة منذ "غزوة الجبل" الأخيرة، مرحلة تقوم على تحصين الجبل والمحافظة على تماسك أبناء الطائفة، لا بد من ملاحظة أن المحاولات المبذولة لشق الصف الدرزي تندرج في سياق مخطط أوسع. يصب المخطط في الانقلاب الكبير الذي يسعى النظام السوري إلى تنفيذه على مراحل. يفترض أن يتوج الانقلاب بانتخابات نيابية تجري في الربيع أو مطلع الصيف المقبل تؤدي إلى قيام أكثرية تابعة للمحور الايراني ـ السوري. مثل هذا الانقلاب لا يمكن أن ينجح في حال كان حواراً بين اللبنانيين، وفي حال كان تفاهم على استراتيجية دفاعية عمادها الدولة اللبنانية بما يحصر السلاح بها وبمؤسساتها...
ما حصل في بيصور لم يكن صدفة لا من حيث المكان ولا من حيث التوقيت. جاءت الجريمة ردًا على وجود نية حقيقية في عدم تمكين المحور الايراني ـ السوري من اختراق الجبل. وجاءت بعد حادث سجد الذي استشهد فيه الضابط الطيار النقيب سامر حنا الذي اغتاله "حزب الله" بدم بارد أو غير بارد. وجاءت بعد انكشاف الدور الذي يؤديه الجنرال ميشال عون الذي لا همّ له سوى تغطية الجرائم التي ترتكب في حق اللبنانيين الشرفاء. بالطبع، ان دور ميشال عون مكشوف تماما منذ فترة طويلة، ولكن طريقة تعاطيه مع استشهاد النقيب الطيار أزال ما بقي من غشاوة في أعين لبنانيين كانوا يتوقعون من قائد سابق للجيش عدم تبرير جريمة ترتكبها ميليشيا حزبية في حق ضابط.
أخيراً، جاءت جريمة بيصور لتؤكد أن لا وجود لمنطقة لبنانية غير مخترقة وان الرد على ما قام به النائب سعد الحريري زعيم "تيار المستقبل" في طرابلس والبقاع لن يتأخر. أكثر من ذلك، مطلوب ابلاغ الرئيس ميشال سليمان الذي دعا إلى الحوار الوطني انطلاقاً من قصر بعبدا أن لا فائدة من الحوار قبل الانتخابات النيابية المقبلة وحصول الانقلاب الكبير الذي سيقلب التوازنات الداخلية رأسا على عقب.
هناك أكثر من رسالة حملتها جريمة بيصور. ولعل أهم الرسائل أن لبنان كله مهدد وأن "غزوة بيروت" مستمرة وأن صمود الجبل ليس سوى صمود موقت. المطلوب أن يفهم اللبنانيون، بغض النظر عن طائفتهم أو مذهبهم أو المنطقة التي ينتمون أليها أن لبنان لا يستطيع العيش من دون وصاية ومن دون أن يكون امتداداً للمحور الايراني ـ السوري و"ساحة" له. مطلوب أن تكون بيروت قنبلة موقوتة بفضل الشحن المذهبي الذي يمارسه "حزب الله". ومطلوب أن يكون الجبل الدرزي عشائر متناحرة ومطلوب أن تكون المناطق المسيحية في حماية ميشال عون الذي يديره "حزب الله" بالريموت. مطلوب تحويل الشمال وقسم من البقاع إلى قندهار... أو إلى ما يشبه قطاع غزة في أحسن الأحوال. هذا ما يتعرض له لبنان حاليا. وهذا ما يقاومه اللبنانيون. هذه طبيعة المعركة التي يخوضها لبنان في مواجهة محور متحالف مع إسرائيل عبر مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة معها...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.