كان طبيعياً أن يطلق "حزب الله" النار على طائرة هليكوبتر من طراز "غازيل" وأن يؤدي ذلك إلى استشهاد النقيب الطيار سامر حنا ابن الستة وعشرين عاماً. من يقيم ميليشيا مسلحة في البلد وينشر قواته وأسلحته وعناصره الأمنية في طول الأراضي اللبنانية وعرضها لا بدّ له من أن يصطدم في نهاية المطاف بقوى الشرعية اللبنانية. حصل ذلك في الماضي ويحصل الآن وسيحصل في المستقبل ما دام هناك صدام بين منطقي الثورة والدولة. لا تعايش بين المنطقين ولا امكان لعيش مشترك بينهما، وهو ما يطمح إليه "حزب الله" الساعي إلى جعل الجيش مجرد ملحق بدولته. هناك هدنة في أحسن الأحوال... إلى أن يأتي اليوم الذي تتحلل فيه الدولة اللبنانية. وبكلام أوضح، لا بدّ من الاعتراف بأن هناك خطراً حقيقياً على الجمهورية اللبنانية كدولة ذات مؤسسات خاصة بها بعد فشل المحاولات المستميتة لوضع اليد عليها، والخطر الأكبر هو على الجيش الذي حمى مؤسسات الدولة التي هو جزء لا يتجزأ منها، كما حمى مرحلة الانتقال من عهد الوصاية إلى بداية الاستقلال الثاني. يبدو وكأنه على المؤسسة العسكرية دفع ثمن تأمينها الغطاء لعملية الانتقال هذه التي جاءت بدفع شعبي عفوي يعبر عن وجود شعور وطني حقيقي يجمع بين سائر اللبنانيين بغض النظر عن الطائفة التي ينتمون إليها.
ما حصل في جنوب لبنان أمر أكثر من طبيعي. انه يندرج في سياق ما يتعرض له الوطن الصغير منذ سنوات عدة والذي كانت من محطاته الأساسية جريمة التمديد لاميل لحود في رئاسة الجمهورية، وسلسلة الأحداث التي يتعرض لها منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي قرر فيه النظام السوري المضي في استكمال وضع يده على البلد من منطلق أنه "ساحة" يمارس من خلالها سياسة الابتزاز مع العرب الآخرين ومع القوى الدولية بهدف واضح كل الوضوح يتمثل في التوصل إلى صفقة مع الولايات المتحدة واسرائيل على حساب لبنان واللبنانيين.
لم يحد النظام السوري قيد أنملة عن مخططه الذي يشاركه فيه النظام الايراني. ما تغير بين العامين 2004 و2008 عند اطلاق "حزب الله" النار على هليكوبتر لبنانية في داخل الأراضي اللبنانية، هو الانتقال من مرحلة السيطرة على لبنان من دون تفكيكه إلى مرحلة العمل على تفكيكه من أجل السيطرة عليه. ظنّ النظام السوري في البداية أن مجرد التخلص من رفيق الحريري كفيل بعودة الأمور إلى نصابها وإلى افهام كل من يعنيه الأمر أن لا شيء تغيّر ولا شيء يمكن أن يتغيّر في لبنان منذ اغتيال الرئيس رينيه معوّض ومنذ توقيع معاهدة الأخوة بين البلدين في الثاني والعشرين من أيار 1991. ومن أجل محاولة فهم الذهنية السائدة لدى النظام السوري في تلك المرحلة، أي لدى استشهاد رفيق الحريري وهي الذهنية التي لا تزال سائدة لديه إلى اليوم، لا بدّ من العودة إلى ما حصل في جلسة مجلس الوزراء الأولى بعد وقوع جريمة العصر. كان مطلوباً أن يكون اغتيال رفيق الحريري الذي كان زلزالاً بكل معنى الكلمة تجاوزت أبعاده لبنان، أشبه بحادث سير عارض، انه مجرد "رذالة" على حدّ تعبير اميل لحود في وقت لاحق.
كان تصرّف اميل لحّود في جلسة مجلس الوزراء أفضل تعبير عن التفكير السوري الذي سيتبيّن يوماً أنه ليس بعيداً عن التفكير الايراني الذي يتلخص بعبارة وضع اليد على لبنان واستخدامه "ساحة". لم يتغيّر شيء منذ وقوع الجريمة. العامل الوحيد الذي لم يأخذه الايراني والسوري في الاعتبار أن لبنان سيصمد وأن اللبنانيين سينزلون إلى الشارع للرد على كل محاولات تغطية الجريمة بدءا بتظاهرة الثامن من آذار التي كان الهدف منها "شكر" النظام السوري على اغتيال رفيق الحريري وإرهاب اللبنانيين. ولذلك توالت الخطوات الترهيبية في حق اللبنانيين مع استمرار الاغتيالات والتفجيرات وافتعال الحروب الكبيرة والصغيرة وتشجيع الارهاب الأصولي في شمال لبنان... واحتلال وسط بيروت ثم شن "غزوة بيروت" وصولاً إلى المرحلة الراهنة.
لم تنجح محاولات وضع اليد على لبنان بعدما قاوم اللبنانيون وأظهروا أن المقاومة الحقيقية التي تتصدى للمشروع الاسرائيلي المدعوم ايرانياً وسورياً هي تلك التي تقف في وجه ميليشيا "حزب الله" وأدواتها التي تتخذ أحياناً شكل ميشال عون وفي أحيان أخرى شكل ذلك "السلفي" المزيف الآتي إلى طرابلس عبر الأراضي السورية واسمه شاكر العبسي أو من على شاكلته. لم يتغيّر شيء ولكن تغيّر الكثير. هناك تركيز مستمر في الأشهر القليلة الماضية على ضرب المؤسسة العسكرية، خصوصاً منذ انتصار الجيش على عصابة شاكر العبسي في مخيم نهر البارد. هل من يريد أن يتذكر أن "حزب الله" اعتبر في مرحلة ما المخيم "خطاً أحمر"؟، هل من يريد أن يتذكر اغتيال اللواء فرنسوا الحاج مدير العمليات في الجيش؟، هل من يريد تذكّر أحداث مار مخايل وتأثيرها على المؤسسة العسكرية؟، هل من يريد أن يتذكر "غزوة بيروت" وما رافقها من تصرفات تسيء إلى الجيش؟.
في حال كان مطلوباً اختصار أحداث المرحلة الراهنة، يمكن القول ان المطلوب سورياً وإيرانياً وحتى اسرائيلياً، تفكيك لبنان. هكذا يمكن فهم الهجمة التي يتعرض لها الجيش وهكذا يمكن أيضاً فهم تورط "حزب الله" في أحداث طرابلس عن طريق المواجهة بين بعل محسن وباب التبانة أحياناً ودعم بعض العناصر السنية المتطرفة في أحيان أخرى!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.