8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

محمود درويش.. الشاعر والسياسي

قهر الموت أخيراً ذلك الذي كان يؤمن بالحياة والجمال. كان آخر الكبار، ذلك الذي لم يكن وفياً سوى لفلسطين. كان محمود درويش مسكوناً بفلسطين. كان إنساناً شفافاً الى أبعد حدود، لكن شفافيته كانت تتوقف عند فلسطين التي عاد إليها من دون أن يعود. لدى الحديث عن فلسطين، كان محمود درويش يتحوّل الى شخص آخر، كان يتخلى حتى عن شفافيته لمصلحة عنفوانه الذي لا حدود له. ذهب الى فلسطين مودعاً. ذهب العام الماضي الى حيفا، وعاد مؤمناً أكثر من أي وقت بأن المجتمع الإسرائيلي مريض وأن الإسرائيلي في حاجة دائمة الى أن يظهر في مظهر الضحية.
في إحدى المرات قال لي محمود درويش إن الإسرائيلي يخاف من الفلسطيني لأنه يسلبه دور الضحية. بالنسبة إليه، ثمة حاجة مستمرة لدى الإسرائيلي لأن يكون في وضع الضحية في حين أن الضحية الحقيقية هي الفلسطيني. كان الإسرائيلي، ولا يزال، يرفض ذلك ويصرّ على أنه هو الضحية. يغار من الفلسطيني بصفة كون الأخير ضحية. هذه الصورة لم تفارق محمود درويش يوماً. لم يغفر للإسرائيلي أنه يريد أن يسرقف حتى من الفلسطيني حقيقة أنه الضحية. كان يرى في تلك الصورة ذروة المأساة الفلسطينية والمثل الأوضح على البؤس الإسرائيلي وعمق الأزمة الوجودية التي يعانيها أولئك الذين جاؤوا من أصقاع الأرض الى فلسطين وشرّدوا شعبها.
إمتلك محمود درويش ما يكفي من التواضع ليرفض كل من لا علاقة له بالذكاء أو خفة الدم. لم يكن متساهلاً أو متسامحاً في أي شكل من ثقلاء الدم والأغبياء. لم يكن يتحمل سوى أولئك الذين كان لديهم حد أدنى من البريق. لذلك كان أصدقاؤه نادرين على الرغم من أن كثيرين كانوا يعتبرون أنفسهم قريبين منه. لم يكن يرتاح سوى الى قليلين يزورهم في بيوتهم المتواضعة من دون أي نوع من العقد. على سبيل المثال، لم يكن يرتاح في القاهرة إلا في منزل الزميل نبيل درويش الذي كان من أقرب الناس إليه. لم يكن محمود درويش سهلاً ولم يكن متساهلاً ولا حتى متسامحاً. كان يرفض الابتذال بشكل صارم وقاطع وكان يرفض المبتذلين، كان أكثر ما يكرهه أن يقول أحدهم أن قصائده "حماسية" أو أنه جاء الى ندوة ما ليلقي قصيدة "حماسية". لم تكن لديه أي أوهام في شأن الآخرين. لذلك لم يكن يتعاطى بعمق سوى مع الأنقياء. من بين هؤلاء الشهيد سمير قصير وزوجته جيزيل خوري. أما الصحافيون الآخرون، بمن في ذلك أدعياء الوطنية والتقدمية من الذين عملوا لدى صحف تابعة لأجهزة وأنظمة معروفة... فكان يعرف تماماً ثمن كل منهم من الأحياء والأموات للأسف كان يسمي هؤلاء بأسمائهم. لم تكن لدى محمود درويش أوهام. لم يكن مجرد شاعر لا مثيل له في العالم العربي. كان سياسياً في الدرجة الأولى. كان سياسياً مختلفاً عن السياسيين، كان يرفض الدخول في مساومات، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بفلسطين. كان يحتمي بمحمود درويش الشاعر عندما كان عليه الدخول في دهاليز السياسة ومتاهاتها. عندئذ كان يعود الى الشاعر يستنجد به كي يبقى محمود درويش وفياً لمحمود درويش ولفلسطين أولاً.
ما لا يعرفه كثيرون أن محمود درويش كان عاشقاً لبيروت. رفض مغادرة العاصمة اللبنانية حتى بعد الاحتلال الاسرائيلي لها في العام 1982. بقي صامداً يتنقل من مقهى الى آخر في مرحلة ما بعد انحسار الاحتلال عن شوارع المدينة. لم يرحل عن بيروت وعن شقته في رأس بيروت، الواقعة في شارع محاذ لشارع بلس حيث الجامعة الأميركية، إلا بعدما تلقى تهديدات مباشرة من الاسرائيليين ومن كان يمثلهم في تلك المرحلة المشؤومة. غادر على أمل العودة قريباً، لكن غيابه طال الى أن عادت بيروت وعاد لبنان بفضل رفيق الحريري ابتداء من السنة 1990.
ما لا يعرفه كثيرون أيضاً أن محمود درويش لم يكن يوماً بعيداً عن القرار السياسي الفلسطيني وعن كل الخطابات المهمة التي ألقاها ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، بدءاً بخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1974، كان محمود درويش، عبر بصماته وعبر صياغات معينة، حاضراً في كل خطاب من تلك الخطابات، باستثناء تلك التي كان فيها ضعف ما. ابتعد محمود درويش عن القرار الفلسطيني بعد التوصل الى اتفاق أوسلو في العام 1993، لكنه لم يبتعد عن ياسر عرفات. كانت لديه تحفظاته من منطلق أنه لم يكن شريكاً في القرار. كان محقاً في كل كلمة قالها وقتذاك. كان يعرف الفلسطينيين أكثر من غيره وكان يعرف خصوصاً الاسرائيليين من داخل وكان يدرك تمام الادراك هواجسهم وأمراضهم... حتى أنه كان بين القلائل الذين توقعوا اغتيال اسحق رابين على يد متطرف اسرائيلي بعد توقيع اتفاق أوسلو.
بعد محمود درويش، يصعب الحديث عن شاعر كبير في العالم العربي. يصعب الحديث عن شاعر وسياسي وانسان أحب المدن العربية وغير العربية. أحب القاهرة وبيروت وعمان وأحب باريس خصوصاً وقد أقام فيها سنوات عدة. كان محمود درويش استثنائياً. رفض دائماً الدخول في أي نوع من المساومات حتى مع نسائه. طبق ذلك على السياسة. لم يكن لديه وفاء سوى لفلسطين. كانت حبيبته الأولى والأخيرة. مات عاشقاً لفلسطين ومن أجل فلسطين.

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00