يشكّل الكلام الغامض الذي صدر في قصر بعبدا عن وزير الخارجية السوري السيد وليد المعلّم بعد تسليمه دعوة الى الرئيس ميشال سليمان لزيارة دمشق تتمة لما قاله الرئيس بشار الأسد في باريس. هناك رغبة في تفسير الغموض بغموض من نوع جديد، علماً أن الغموض لا يمكن أن يفسّر الغموض. يرى المواطن العادي في لبنان أن فحوى كلام الأسد وبعده المعلم بمثابة رهان على الغموض بهدف إيجاد توازن جديد في لبنان بعد الأنتخابات النيابية المقبلة... توازن يقوم على تحول الأكثرية الى أقلية والأقلية الى أكثرية، أي تحول الذين شاركوا في تظاهرة الثامن من آذار الذين قالوا "شكراً لسوريا" على فرض وصايتها على لبنان طوال ثلاثين عاماً بما سهّل ارتكاب جريمة اغتيال رفيق الحريري ومهّد لها، الى حكام للبلد من جديد على أن تكون لديهم مرجعية سورية في عنجر أو غير عنجر هذه المرة.
لا تنطلي اللعبة السورية الجديدة القائمة على الرهان على الوقت على أحد. تنطلي فقط على أدوات الأدوات من مستوى ميشال عون وما شابهه... من وئاب وهّاب مثلاً، أي الدمى المتحركة التي تستخدم في خدمة مشروع لا علاقة له سوى بتكريس لبنان "ساحة" للمحور الإيراني ـ السوري. هذه اللعبة تمثل امتداداً لاتفاق القاهرة الذي فرض في العام 1969 على اللبنانيين بالقوة، أي بقوة السلاح على طريقة فرض الثلث المعطل نتيجة "غزوة بيروت" الأخيرة ومحاولة تحويل المدينة الى "مربع أمني" جديد ينضم الى المربعات التي تسيطر عليها ميليشيا "حزب الله" بعيداً عن سلطة الدولة اللبنانية.
لا يخدم الغموض أحداً. لا يخدم سوريا ولا يخدم لبنان. كان الرئيس السوري غامضاً عندما تحدث في باريس عن العلاقات الديبلوماسية بين بيروت ودمشق. كذلك فعل وزير خارجيته في قصر بعبدا. لم يقتصر الغموض على الحديث السوري العلاقات الديبلوماسية. تجاوز ذلك الى كل ما له علاقة بلبنان بدءاً بترسيم الحدود بين البلدين وإنتهاء بالمعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. ما هذه النكتة السمجة التي جاء بها وليد المعلم الذي تحدث عن مفقودين سوريين في لبنان لتبرير احتجاز لبنانيين في السجون السورية طوال ثلاثين عاماً. لم تصدّق النكتة سوى الأداة المستأجرة التي اسمها ميشال عون قائد الجيش السابق الذي زج بجنوده وضباطه في معارك خاسرة سلفاً ولم يعد يسأل عنهم الآن بعدما أدى المهمة التي وجد من أجل تأديتها.
في حال كان النظام السوري مهتماً بخدمة سوريا والسوريين، يفترض به اعتماد الوضوح في التعاطي مع لبنان بدل اللجوء الى منافقين على استعداد لأن يقولوا له كل الكلام الذي يحب سماعه، بما في ذلك انه محبوب من كل الشعب اللبناني على غرار ما كان ينادي به الزعيم الكوري الشمالي الراحل كيم أيل سونغ "المحبوب" من كل الشعب الكوري الذي نصفه الشمالي الذي يسيطر عليه بالقمع جائع حقاً... فيما نصفه الجنوبي يكره بأكثريته الساحقة كل ما له علاقة بالنظام في الشمال!
من مصلحة لبنان وسوريا أن تكون هناك علاقة واضحة بين البلدين، علاقة قائمة على حدود واضحة وعلى علاقات ديبلوماسية أكثر من واضحة. بكلام أكثر وضوحاً، من الأفضل للبلدين أن تكون هناك علاقة بين البلدين ترتكز على الندية. هناك مشاكل كبيرة تواجه لبنان. مشاكل ذات طابع اجتماعي واقتصادي، مشاكل على علاقة بالتنمية والـ"مربعات الأمنية" والمخيمات الفلسطينية والسلاح داخل المخيمات وخارجها. لدى سوريا مشاكل أكبر من مشاكل لبنان، كانت أحداث سجن صيدنايا الأخيرة أفضل تعبير عنها. هناك نظام مضطر الى أن يسجن مثقفاً من مستوى ميشال كيلو. هل من نظام طبيعي يخاف من ميشال كيلو ومن أشخاص مثل ميشال كيلو يفترض به تكريمهم بدل وضعهم في السجن؟
لا حاجة الى تعداد المشاكل التي تواجه سوريا بدءاً بالنمو السكاني غير الطبيعي وانتهاء بالشرخ القائم بين الطبقة الصغيرة التي تتحكم بالاقتصاد والثروة وبقية أفراد الشعب ... انتهاء بعدم القدرة على بناء طبقة وسطى بسبب البرامج التعليمية المتخلفة والفساد والتخلف المنتشرين في كل القطاعات. وفي حال كان مطلوباً تسمية الأشياء بأسمائها، أقل ما يمكن قوله إن الهرب من المشاكل الداخلية الى الخارج اللبناني لا تفيد في شيء. مثل هذه السياسة تعود بالخراب على سوريا ولبنان، على السوريين واللبنانيين. إن اللعبة التي مارسها وزير الخارجية السوري في قصر بعبدا يمكن أن تبدو للبعض بمثابة نوع من التذاكي. التذاكي يمكن أن يكون مفيداً، كما يمكن أن يكون مسلياً متى بقي في حدود معينة. لكن التذاكي شيء والوقاحة شيء آخر. يبقى التأكيد على أن الوضوح وحده يخدم سوريا ولبنان. لا يخدمهما الكلام المنمّق ولا الحديث عن التداخل في الأراضي لتبرير الرفض لترسيم الحدود... تفادي الوضوح لن يفيد في شيء، أقله بالنسبة الى المحكمة الدولية وهي في لبّ اهتمامات النظام السوري. المحكمة آتية، آتية، آتية، من يشك في ذلك يستطيع التأمل في مشهد زعيم صرب البوسنة رادوفان كاراديتش خلف القضبان! لماذا لا يكون فصل بين المحكمة الدولية والعلاقة بين سوريا ولبنان وبين الشعبين الشقيقين وترك المحكمة تأخذ مجراها الطبيعي ليتبيّن من وراء اغتيال رفيق الحريري والجرائم الأخرى في حق اللبنانيين الشرفاء؟ هل الغموض يساعد في الهرب من المحكمة؟
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.