في لبنان، لا وجود لجرائم ترتكب من دون هدف واضح ومحدد في آن. كان اغتيال البيروتي الاصيل النائب وليد عيدو، قبل سنة، في سياق مسلسل الجرائم التي ارتكبت واستهدفت كلها بطريقة او بأخرى السيطرة على بيروت التي انتفضت في الايام التي تلت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ادت انتفاضتها التي شارك فيها لبنانيون من كل الطوائف والمناطق، الى خروج القوات السورية من لبنان. يبدو واضحا ان اغتيال وليد عيدو يندرج في اطار واضح يتمثل في اغتيال بيروت كمدينة ترمز الى ثقافة الحياة. في النهاية دفع رفيق الحريري حياته ثمناً لاعادة الحياة الى بيروت وإعادة لبنان الى خريطة الشرق الاوسط والعالم. كان مطلوباً اخضاع بيروت وتدجينها، ولمّا بقيت المدينة صامدة كان لا بدّ من متابعة الحملة عليها. وهذا ما يفسر الى حد كبير لماذا كان استهداف هذه الشخصية بالذات او تلك في مرحلة معينة.
منذ ما قبل جريمة التمديد للرئيس السابق اميل لحّود في العام 2004 والحملة على بيروت مستمرة. كان مطلوباً ان تستمر عملية السيطرة على بيروت، اي على القرار السياسي اللبناني كي لا يكون هناك لبنان القادر على استعادة وضعه الطبيعي. كان مطلوبا بكل دقة ان يكون لبنان تحت السيطرة السورية الدائمة. لا لبنان من دون الوصاية السورية. كان الطريق الاقصر الى ذلك استخدام شخص مثل اميل لحود في عملية جعل المؤسسات اللبنانية كلها في خدمة ما يريده النظام السوري ومن خلفه النظام الايراني الذي يعتبر ان لبنان يسمح له بأن يكون على تماس مباشر مع اسرائيل التي في استطاعته عقد صفقات معها. هذا هو سر التمديد لاميل لحود والاصرار السوري على التمديد. لم يكن في الامكان توفير شخص اخر قادر على تنفيذ المهمات الموكلة الى اميل لحود... على رأس هذه المهمات جعل الدولة اللبنانية في خدمة دويلة "حزب الله" لا اكثر ولا اقلّ ارضاء للنظامين السوري والايراني!.
الآن، بعد سنة على استشهاد وليد عيدو مع نجله، يتبين كم هي ضخمة الحملة التي تستهدف بيروت. يكفي ان وليد عيدو ادرك منذ البداية خطورة المخطط الذي يستهدف لبنان عبر بيروت كي يجري التخلص منه قرب المكان الاحب اليه، اي مسبح "سبورتنغ" الذي لا يقصده سوى اولائك الذين يحبون بيروت من الاعماق بكل ما تمثله من حضارة وتنوع بعيدا كل البعد عن اي نوع من التعصب المذهبي او الطائفي.
لماذا تخيف بيروت القتلة؟ الاكيد انه كان لدى وليد عيدو الجواب الشافي. هل لأنها تصدّت لجريمة التمديد لاميل لحود ثم رفضت محاولة اغتيال مروان حمادة وانتفضت للجريمة الكبرى المتمثلة في اغتيال رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما. هل جاء اغتيال سمير قصير، صاحب كتاب "قصة بيروت"، وجورج حاوي وجبران تويني لأن بيروت لم ترضخ للمجرمين وتستسلم لهم ولأنّها استمرت في المقاومة. ولأنّ المقاومة استمرت كان لا بد من اغتيال وليد عيدو وقبله بيار امين الجميل ثم النائب انطوان غانم واللواء فرنسوا الحاج والرائد وسام عيد ومحاولة اغتيال الياس المرّ ومي شدياق الشهيدة الحية التي ترمز حاليا الى لبنان الرافض للتخلي عن رسالته الحضارية وعن روح المقاومة...
من لديه ادنى شك في ان بيروت هي الهدف يستطيع العودة الى احداث السنوات الثلاث الاخيرة ليتأكد من ذلك. لم تُستهدف حكومة فؤاد السنيورة سوى لأنها ارادت حماية القرار اللبناني السيد المستقل عبر حماية بيروت وكل منطقة اخرى من لبنان. لم يفتعل "حزب الله" الحرب مع اسرائيل صيف العام 2006 سوى لتمكين العدو من تدمير جزء من البنية التحتية للبنان وإعادة البلد ثلاثين عاما الى خلف وتأكيد ان قرار الحرب والسلم خارج مؤسسات الدولة اللبنانية وخارج بيروت. لم تُشنّ الحرب على الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد الا بهدف منع الجيش اللبناني من حماية بيروت. لم يحصل قبل ذلك الاعتصام وسط بيروت، والذي وراءه "حزب الله" وأداته المستأجرة التي اسمها الجنرال، سوى من اجل تعطيل الحياة في بيروت وضرب فكرة المدينة. ولم تُفتعل احداث مار مخايل التي كانت فخاً نُصب للجيش سوى لأنه نجح في امتحان نهر البارد وقضى على عصابة "فتح الاسلام" الارهابية التي يقف النظام السوري خلفها.
عندما تبين اخيرا ان العاصمة صامدة وخلفها كل لبناني شريف، كانت "غزوة بيروت" التي استهدفت القضاء على صيغة العيش المشترك في المدينة. انها الصيغة التي تحمي انطلاقا من بيروت العيش المشترك في كل لبنان. كانت "غزوة بيروت" التي شنها "حزب الله" على اهل العاصمة نجاحا عسكريا وفشلا سياسيا بكل معنى الكلمة. ساعد صمود الجبل في وجه ميليشيا "حزب الله" في تحقيق الانتصار السياسي الذي يجسّده صمود بيروت وإعادة تكليف فؤاد السنيورة تشكيل الحكومة. هذه هي المعادلة التي يرفض "حزب الله" والذين خلفه الاعتراف بها الآن.
تحية من بيروت الى وليد عيدو في ذكرى استشهاده، عزاؤه ان بيروت التي احبها وقدّم الغالي من اجلها لن تخذله. بيروت التي انتصرت على كل من تطاول عليها، بدءا بأرييل شارون وكل انواع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية لا يمكن الا ان تخرج منتصرة. ستنتصر بيروت لسبب في غاية البساطة هو انها على تماس وتواصل مع المستقبل ومع كل ما هو حضاري في العالم. ستنتصر بيروت مثلما انتصرت برلين الغربية على برلين الشرقية. ثقافة الموت لا يمكن ان تنتصر على ثقافة الحياة!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.