كان طبيعياً وصول وزراء الخارجية العرب إلى طريق مسدود في شأن كل ما له علاقة بلبنان. هناك نظام عربي بالاسم، ذو مرجعية في طهران، يتحكم بدولة عربية هي سوريا، يسعى إلى إلغاء لبنان، فيما يرفض العرب أخذ العلم بذلك. هناك واقع يشكل أساس المشكلة يريدون تجاهله. هناك نظام عربي يتاجر بـ "الممانعة" يرسل أسلحة إلى لبنان لتعزيز وضع ميليشيا "حزب الله" التابعة لدولة غير عربية. هذه الدولة التي اسمها إيران تسعى بكل بساطة إلى عقد صفقات مع "الشيطان الأكبر" الأميركي على حساب لبنان وعلى حساب كل ما هو عربي في المنطقة بعدما وضعت يدها على القرار السوري. ولعل آخر دليل على ذلك، الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لبغداد حيث وضع نفسه في حماية الجيش الأميركي. المفارقة أنه في الوقت الذي كان أحمدي نجاد في حماية الأميركيين في بغداد، راح "حزب الله" يهاجم مع أدواته ارسال الولايات المتحدة قطع بحرية إلى قبالة الشاطئ اللبناني والسوري متناسياً أن الحرب التي شنتها أميركا على العراق كانت بمشاركة إيران وان ايران هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي قدّمت تسهيلات إلى الأميركيين وبادرت إلى مباركة الاحتلال وبث الروح المذهبية البغيضة في العراق. هل من نظام آخر غير النظام الإيراني، الذي يدّعي محاربة أميركا، اعترف بمجلس الحكم الانتقالي الذي شكّله الاحتلال بعيد دخوله بغداد وإسقاط النظام العائلي ـ البعثي غير المأسوف عليه لصدّام حسين؟
مرة أخرى ليس مصير لبنان هو الذي على المحك فحسب، بل مصير النظام العربي كله أيضاً. هل يترك النظام العربي نفسه تحت رحمة المحور الإيراني ـ السوري وسياسة الابتزاز التي لا يتقن غيرها أم يقدم قريباً على خطوة حاسمة تؤكد أن المناورات التي يمارسها حكّام دمشق لم تعد تنطلي على أحد؟
كانت المبادرة العربية واضحة كل الوضوح. كان هدفها التوصل إلى انتخاب رئيس للجمهورية ثم تشكيل حكومة لا تتمتع فيها الأكثرية بالثلثين أو المعارضة بما يسمى الثلث المعطل، أي الثلث زائداً واحداً. كان يفترض بالجانب العربي تفادي الأخذ والرد. كان عليه أن يستوعب منذ البداية أن النظام السوري لا يزال يراهن على الفراغ في لبنان. إن الأخذ والرد بمثابة دخول في اللعبة السورية التي ترمي إلى تفتيت لبنان من أجل استعادة السيطرة عليه. ومن أجل فهم طبيعة هذا النظام وكيفية تفكيره، لا بدّ من العودة إلى الاجتماع الذي انعقد بين الرئيس بشّار الأسد والرئيس الشهيد رفيق الحريري في كانون الأول من العام 2003 والذي هدد فيه الأسد الابن الرئيس الشهيد في حضور كل من اللواء غازي كنعان وزير الداخلية السوري، الذي انتحر لاحقا، وكل من العميد رستم غزالة الذي خلف كنعان مفوضا ساميا سوريا على لبنان والضابط محمد خلّوف رئيس ما كان يسمّى فريق المراقبين السوريين في لبنان. في ذلك الاجتماع الذي سبق بتسعة أشهر قرار الرئيس السوري بالتمديد لإميل لحود، قال الأسد الابن بالحرف الواحد لرفيق الحريري إنه هو من يختار رئيس لبنان. وبعد توجيهه اتهامات خطيرة إلى الرئيس الشهيد من نوع "كم يوما في الأسبوع تعمل معنا وكم يوما تعمل ضدّنا؟" و"أنا لا أعرفك سوى منذ ثلاث سنوات"، انتقل الرئيس السوري إلى تهديد رفيق الحريري وتحذيره من مغبة التعاطي بقضية التمديد لاميل لحود وقضية "بنك المدينة". وذهب بشّار الأسد إلى حد القول: "التمديد ورقة في يدي ومن يتعاطى بهذه القضية يريد إحراق يدي".
لم يتغيّر شيء بالنسبة إلى النظام السوري. هذا ما على العرب فهمه. يعتبر هذا النظام بكل بساطة أن شيئا لم يتغيّر في لبنان وأن الشعب اللبناني لم يرد على اغتيال رفيق الحريري بإخراج القوات السورية من لبنان في حين ردّ المجتمع بالاصرار على المحكمة الدولية التي سيمثل أمامها، عاجلا أم آجلا، المتهمون بالجريمة والجرائم الأخرى التي نالت من اللبنانيين الشرفاء فعلا.
المطلوب بكل بساطة عودة لبنان إلى تحت الوصاية السورية كي لا تكون هناك محكمة دولية. المسألة تتجاوز رئاسة الجمهورية في الوطن الصغير إلى تفكيك لبنان والنيل منه والتحكم به كي لا تكون هناك مرجعية للمحكمة الدولية. المطلوب تصرف العرب مع النظام السوري وكأن ما شهده لبنان سلسلة من حوادث السير وأن يبقى البلد مجرّد "ساحة" تستخدم لتوجيه رسائل إلى الولايات المتحدة لا أكثر...
حسنا فعل الوفد اللبناني إلى اجتماع القاهرة عندما طرح موضوع مستقبل العلاقات اللبنانية ـ السورية. ما تجاهله الوفد أن النظام السوري ليس حراً. تقلص هامش المناورة لديه منذ صار نفوذه في لبنان مرتبطا بإرادة طهران وعبر ميليشيا "حزب الله" تحديداً التي تعتبر لواء في "الحرس الثوري" عناصره لبنانية. مستقبل العلاقات بين البلدين العربيين في أساس المشكلة. هل في استطاعة العرب اتخاذ موقف من هذه العلاقات والقول للنظام السوري أنه لا يحق له اختيار رئيس للبنان وأن هذه الأيام ولّت إلى غير رجعة. من دون هذا الموقف لا فائدة من مبادرات عربية حتى لو كانت واضحة وضوح الشمس. لدى النظام السوري القدرة على تحويل الوضوح العربي إلى غموض كامل من أجل العودة إلى لبنان والهرب من المحكمة... هاجس المحكمة لا يفارقه، خصوصاً بعد وضعها على نار قوية... إلى اشعار آخر، هذا ما يرفض العرب أخذ العلم به!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.