كان على حق من أكّد أن الفراغ الرئاسي المرشح الوحيد للنظام السوري في لبنان. بالنسبة إلى هذا النظام، لا يمكنه أن يجد من هو أسوا من أميل لحود كي يحل مكانه، فأختار الفراغ ومارس الضغوط لمنع مجلس النواب من الأنعقاد وأنتخاب رئيس جديد. في غياب رئيس مطيع وفي غياب القدرة على أرتكاب جريمة أخرى في مستوى فرض أميل لحود على اللبنانين، يعتبر النظام السوري أنه سيكون في أستطاعته أختيار رئيس لبناني بمواصفات معينة متى حان الوقت لذلك. إلى أن يحين ذلك الوقت، على اللبنانيين العيش في ظل الفراغ الرئاسي.
يعتقد النظام السوري بكل بساطة أن الوقت يعمل لمصلحته ،وأنه عائد إلى لبنان عاجلا أم آجلا. ولهذا السبب كانت لهجة نائب الرئيس السوري السيد فاروق الشرع عالية جدا، عشية أغتيال العميد فرنسوا الحاج قائد العمليات في الجيش اللبناني. أكّد الشرع، الذي لا يحسن القراءة سوى من كتاب قديم عفا عنه الزمن، أن سوريا بفضل حلفائها في لبنان هي أقوى مما كانت عليه عندما كان جيشها في هذا البلد. سوريا قوية دائما في لبنان. تكفي الجغرافيا كي يدرك أي شخص عاقل أن سوريا لا يمكن ألا أن يكون لها نوع من النفوذ في لبنان. لكن سوريا شيء والنظام شيء آخر. لا يستطيع النظام العيش بأستمرار على تصدير أزماته إلى الخارج خصوصا إلى لبنان.
يبدو ظاهرا أن النظام السوري يراهن على الوقت من أجل تحسين وضعه في لبنان، على حساب اللبنانيين طبعا. لا يهمه أي أمر آخر غير لبنان، ولذلك يقدم التنازلات في كل مكان من أجل ضمان نفوذه في الوطن الصغير. هذا دليل ضعف وليس دليل قوة. قدم النظام السوري تنازلات جديدة لتركيا عندما أيد تدخلها العسكري في شمال العراق أخيرا. قبل النظام السوري قبل أسابيع قليلة الدخول في مفاوضات مع الأردن في شأن ترسيم الحدود بينهما وأقتسام المياه بعدما رفض ذلك لسنوات. وكبادرة حسن نية، أطلق معتقلين أردنيين موجودين في سجونه منذ سنوات بعدما كان ينفي حتى وجود هؤلاء... أكثر من ذلك، أعتبر النظام السوري أنه خطا خطوة كبيرة إلى أمام على طريق فك عزلته العربية والدولية بمجرد مشاركته في مؤتمر أنابوليس ومنعه المعارضين الفلسطينيين لعملية السلام من عقد مؤتمر لهم في دمشق في موازاة مؤتمر أنابوليس.
قدّم النظام السوري تنازلات في كل مكان. بدأ يضبط حدوده مع العراق بطريقة أفضل من الماضي فأستحق شبه أشادة أميركية وحتى من وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري الذي زار دمشق قبل أيام. والأهم من ذلك كله أن الرئيس نيكولا ساركوزي على أتصال مستمر مع الرئيس بشار الأسد لمحاولة أقناعه بتليين موقفه من لبنان، خصوصا من أجراء أنتخابات رئاسية. لا يرى الأسد في أتصالات ساركوزي أو أي أتصال آخر يجريه معه أحد كبار المسؤولين الأوروبيين سوى دليل على تراجع أوروبا وتغيير سياستها تجاه سوريا. بالنسبة اليه رحل الرئيس جاك شيراك عن قصر الأليزيه فلم تعد هناك أي مشكلة بين دمشق وباريس. وقد أنعكس ذلك إيجابا على مجمل العلاقات السورية ـ الأوروبية. وفي غضون سنة، سيرحل الرئيس بوش الأبن عن البيت الأبيض وستنسى الإدارة الأميركية الجديدة أن هناك مشكلة بين دمشق وواشنطن وأن السفير الأميركي في العاصمة السورية سحب منها في العام 2005. لا يزال النظام السوري يعيش في عالم آخر لا علاقة له من قريب أو بعيد بما يدور على الأرض. صحيح أنه قادر على التخريب مقدار ما يشاء في لبنان. صحيح أنه قادر على أرتكاب كل أنواع الجرائم في الوطن الصغير. لكن الصحيح أيضا أنه لم يطرأ أي تغيير حقيقي على العلاقات مع فرنسا أو الولايات المتحدة وأن كل ما يجري حاليا هو إعطاء فرصة أخيرة للنظام في دمشق كي يتراجع في كل مكان بما في ذلك لبنان. بكلام أوضح، أن أنشغال الإدارة الأميركية بملفات أخرى غير لبنان مثل فلسطين والعراق، لا يعني في أي شكل أن لبنان صار منسيا. هناك نقاط مطلوب تنفيذها وقد حملها في العام 2003 كولن باول، وزير الخارجية الأميركي وقتذاك، إلى الرئيس السوري. وهناك موقف فرنسي ثابت لا يختلف في شيء عن ذلك الذي كان يتخذه شيراك، مع فارق أن الرئيس الفرنسي السابق كانت تربطه علاقة صداقة مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري. مسألة أسابيع وتعود فرنسا إلى ما كانت عليه سابقا بعد أن تكتشف أن الرهان على تغيير في الموقف السوري من لبنان أقرب إلى الوهم من أي شيء آخر.
في ختام المطاف، ان الأستقواء على العالم عبر التهديد بتفجير الوضع في لبنان لا علاقة له بأي نوع من القوة الحقيقية. أنه دليل على ضعف شديد يبديه نظام يظن أن في أستطاعته ممارسة لعبة الأبتزاز إلى ما لا نهاية وأن الأوروبيين مضطرون إلى مراعاته بسبب وجود قوات لهم، تحت رحمة "حزب الله" في جنوب لبنان تماما مثلما أن القوات الأميركية في العراق تحت رحمة الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية الموالية لإيران هناك. مثل هذه الحسابات ليست دقيقة. مثل هذه الحسابات سترتد سلبا على النظام السوري الذي يفترض به أن يدرك أن معركة لبنان في العام 2007 هي غير معركة لبنان في الثمانينات. من كان يتصور أن الجيش اللبناني على أستعداد لتقديم كل هذه التضحيات والانتصار على عصابة شاكر العبسي السورية في مخيم نهر البارد؟ من كان يتصور أن المواطنين في المناطق المسيحية سيطوقون أزلام ميشال عون لدى نزولهم إلى الشارع للتخريب في الثالث والعشرين من كانون الثاني ـ الماضي؟ من كان يتخيل أن أهل بيروت سيصمدون في وجه مسلحي "حزب الله" في الثالث والعشرين والخامس والعشرين من كانون الثاني الماضي أيضا؟ من كان يتصور الصمود البطولي لحكومة فؤاد السنيورة في وجه الحملات التي يشنها عليها المحور الإيراني ـ السوري عبر أدواته المعروفة وأدوات الأدوات المستأجرة؟ لبنان صمد وسيصمد... أما الفراغ فيه فهو تعبير آخر عن الأزمة العميقة للنظام السوري الذي يعتقد أن مصيره معلق على قدرته على التخريب في لبنان!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.