ما يشهده لبنان حاليًا محاولة أخرى على طريق إلغاء اتفاق الطائف الذي أمن المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في مؤسسات الدولة. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان الأصرار الذي يبديه المحور الإيراني ـ السوري عبر أدواته وأدوات الأدوات المستأجرة على الاتفاق على الحكومة الجديدة قبل انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان أو غيره رئيساً للجمهورية. المطلوب نسف النظام اللبناني المبني على اتفاق الطائف من أساسه من أجل أن تكون هناك حال شلل سياسي على كل المستويات في الوطن الصغير. هذا الوطن الذي يخوض حاليًا معركة مصيرية من أجل المحافظة على وجوده.
لعل أخطر ما في الطرح الإيراني ـ السوري الذي يعبر عنه المعارضون التمسك منذ الآن بتضمين البيان الوزاري للحكومة الجديدة التي يفترض أن تنال على أساسه الثقة مقطعًا يؤكد حق "حزب الله" في الإحتفاظ بسلاحه. أي أن يستمر الحزب دولة داخل الدولة اللبنانية وأن تبقى هناك جزر أمنية في البلد خارج سيطرة الدولة ومؤسساتها. مثل هذا الطرح يشكل تهديداً واضحًا لاستمرار لبنان ويدفع عمليًا في إتجاه تفتيت البلد وتعميق الإنقسامات الطائفية والمذهبية...
بكلام أوضح أن هذا الطرح يستهدف بصراحة التوصل إلى اتفاق شبيه باتفاق القاهرة مع فارق أن العناصر التي يتألف منها "حزب الله" لبنانية، بل من صميم المجتمع اللبناني، لكنها تشكل في واقع الحال لواء في "الحرس الثوري" الإيراني. ان تكريس وجود دولة داخل الدولة اللبنانية، خصوصا مع وجود القرار الرقم 1701 الذي أنشا القوة الدولية المعززة في الجنوب اللبناني وأمن انتشار الجيش فيه للمرة الأولى منذ خمسة وثلاثين عاما يقود إلى جعل لبنان في وضع الرافض للشرعية الدولية وللقرار 1701 تحديدا.
من واجب كل لبناني يريد المحافظة على لبنان العمل من أجل تفادي اتفاق القاهرة الجديد. اذا كان الإتفاق الذي وقعه لبنان مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1969 من القرن الماضي أدى إلى الحرب الأهلية في العام 1975، وكانت حرباً بين اللبنانيين وحروبًا بين الآخرين على أرض لبنان، فإن اتفاقاً على البيان الوزاري والحكومة قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية سيؤدي إلى زوال لبنان بصيغته الحالية التي استطاع اتفاق الطائف المحافظة عليها.
قبل الدخول في مغامرة الحكومة والبيان الوزاري وقائد الجيش الجديد والتشكيلات الأمنية، تمهيدا لانتخاب رئيس الجمهورية، على اللبنانيين أن يتذكروا جيّدا الويلات التي جاء بها اتفاق القاهرة والظروف التي أدت إلى توقيعه برعاية مصرية تولاها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. جاء توقيع اتفاق القاهرة في ظل ظروف اقليمية في غاية التعقيد وضغوط تعرض لها لبنان من غير جهة عربية كي يفتح جبهة الجنوب أمام العمل الفدائي الفلسطيني. أراد العرب وقتذاك التكفير عن ذنوبهم تجاه الفلسطينيين وتغطية الهزيمة التي لحقت بهم في حرب العام 1967 عن طريق تقديم جائزة ترضية لمنظمة التحرير الفلسطينية اسمها جبهة جنوب لبنان. كان لبنان البلد العربي الوحيد بين ما يسمى دول الطوق الذي لم يخسر أرضًا في حرب 1967 وذلك لسبب في غاية البساطة يعود إلى أنه لم يشترك فيها. لم يشارك في الحرب لأن القيادة السياسية فيه تحلت بالحكمة ولأنه كان يدرك أن مصلحته تكمن في المحافظة على اتفاق الهدنة، خصوصًا أن خط وقف النار يتفق تمامًا مع خط الحدود بين لبنان وفلسطين في عهد الأنتداب.
وافق الزعماء المسيحيون جميعًا، باستثناء ذلك البعيد النظر الذي اسمه ريمون اده، على اتفاق القاهرة. وافقوا مرغمين بعدما وضعوا تحت ضغوط شديدة بينها الفراغ الحكومي. والمفارقة أن من وقع اتفاق القاهرة من الجانب اللبناني كان قائد الجيش اميل البستاني الذي كانت عينه على رئاسة الجمهورية. اعتقد البستاني أن توقيع الاتفاق الذي يعني التخلي عن جزء من السيادة اللبنانية لياسر عرفات وباشراف جمال عبد الناصر سيوصله إلى الموقع الأول في لبنان.
مفيد استعادة ظروف توقيع اتفاق القاهرة لتفادي اتفاق من نوع آخر أسوأ منه في وقت يتعرض لبنان لأشد أنواع الضغوط من المحور الإيراني ـ السوري وفي وقت صار فيه قائد الجيش يتمتع بما يكفي من الأصوات لانتخابه رئيسًا للجمهورية في حال انعقاد جلسة لمجلس النواب. نعم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية حتى لو كان عسكرياً، ولا وألف لا لأن يكون الانتخاب مترافقًا مع شروط معينة تقود إلى تقييد لبنان بصيغة جديدة ألعن من اتفاق القاهرة.
استعاد لبنان سيطرته على الجنوب بفضل القرار 1701 الذي صب في مصلحته. هناك مجتمع دولي أرسل آلاف الجنود إلى الجنوب كي ينعم أهله بالهدوء والطمأنينة للمرة الأولى منذ سنوات طويلة. أي مسّ بالقرار 1701 يضع لبنان في مهب الريح ويقضي على الصيغة اللبنانية. من يريد حكومة وبيانًا وزاريًا محدداً قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية يريد بالفعل التخلص من لبنان. هل التخلص من لبنان يعني التخلص من المحكمة الدولية التي ستحاكم المتهمين باغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والشهداء الآخرين ومحاولات الأغتيال والتفجير التي تلت جريمة التمديد للرئيس السابق اميل لحود في خريف العام 2004؟ من المؤسف ان على النظام السوري وأدواته إدراك أن نسف لبنان لن ينسف المحكمة...حتى لو كان ذلك عبر اتفاق القاهرة الجديد الذي يسعى إليه.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.