في الوقت الذي كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس تجري محادثات في إسرائيل في شأن مؤتمر أنابوليس المتوقع عقده هذا الشهر أو الذي بعده لإقرار أسس لتسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كانت "حماس" تصعّد مع الرئاسة الفلسطينية بهدف إفشال المؤتمر قبل انعقاده. أنها تتبع السياسة ذاتها التي يسير فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت الذي يرفض تحديد مهل واضحة ومحددة للتسوية التي يحتمل التوصل إليها في المؤتمر. هل مهمة "حماس" إيجاد مخارج لأولمرت في وقت تبدو الإدارة الأميركية للمرة الأولى منذ سنوات عدة على استعداد لبذل جهد جدي بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟
مرة أخرى تأتي "حماس" لنجدة اليمين الإسرائيلي الساعي الى تكريس الإحتلال متكلا على مرور الزمن لخلق أمر واقع آخر اسمه هذه المرة "الجدار الأمني". فعلت ذلك في الماضي عندما ساهمت في العام 1996 في إيصال بنيامين نتانياهو الى موقع رئيس الوزراء عن طريق العمليات الأنتحارية. فعلت ذلك من منطلق أنها متحالفة مع نتانياهو موضوعيا نظرا الى أن الطرفين يرفضان إتفاق أوسلو الذي بدأت "حماس" حربها عليه في لحظة توقيعه. واستكملت مهمتها بعد ذلك عندما أدّت لأرييل شارون في العامين 2001 و2002 كل الخدمات المطلوبة كي يتملص من أي تسوية من أي نوع كان وكي يمارس حقده على ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني الذي تمر بعد أيام الذكرى الثالثة على رحيله.
كان الخطاب الذي ألقاه السيد اسماعيل هنية رئيس الوزراء المقال قبل أيام ذروة الإفلاس السياسي. لكنه كان أيضا ذروة الإتكال على إسرائيل من أجل إفشال التسوية. متى دخل الفلسطينيون أو العرب مفاوضات مع إسرائيل وكان وضعهم أفضل مما كان عليه في مرحلة سابقة وذلك منذ صدور قرار التقسيم وحتى يومنا هذا؟ كلّ ما في الأمر أن هنية كشف في الخطاب الذي ألقاه أمام جمهور "حماس" في غزة وأمام عناصر من الميليشيا التابعة لها والتي تسمّى "القوة التنفيذية" أن كل ما تريده الحركة هو تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني لا أكثر ولا أقل. زوال الإحتلال آخر هم من هموم "حماس". قيام الدولة الفلسطينية ليس هدفا بالنسبة إليها. الهدف تدجين المجتمع الفلسطيني تمهيدا للسيطرة عليه عبر إخضاعه وتحويله الى مجتمع متخلف عن طريق البؤس ونقله من مجتمع منتج الى مجتمع يتكل على الصدقات والمساعدات بحجة أنه مجتمع مقاوم في حاجة الى دعم خارجي مستمر. المجتمع المقاوم لا يعيش على حساب الآخرين ولا ينشئ ميليشيا خاصة به تعتبر في واقع الحال لواء في "الحرس الثوري" الإيراني. المجتمع المقاوم هو الذي لا يفوت فرصة لتحقيق السلام. المجتمع المقاوم لا يكون وقودا للنزاعات الإقليمية التي تورط فيها المحور الإيراني ـ السوري الساعي الى التفاوض مع أميركا وإسرائيل وابتزاز العرب وغير العرب على حساب الشعبين اللبناني والفلسطيني ودماء الشرفاء من أبناء الشعبين...
لا شك أن "فتح" ارتكبت أخطاء كثيرة مكنت "حماس" من الفوز في الإنتخابات التشريعية الأخيرة التي هي ثمرة من ثمار اتفاق أوسلو الذي ترفضه الحركة الإسلامية ملتقية بذلك مع كل رافضي زوال الإحتلال في إسرائيل. لكن يبقى أن هناك فارقا بين الأخطاء والخطايا. ما ارتكبته "حماس" بتنفيذها الإنقلاب الذي شهدته غزة منتصف حزيران الماضي خطيئة في حق الشعب الفلسطيني ونضاله المستمر منذ قرن من الزمن، أي منذ ما قبل صدور وعد بلفور. كانت نتيجة هذا النضال العسكري والسياسي الذي خاضه الشعب الفلسطيني ودفع ثمنه آلاف الشهداء أن وضع نفسه على الخريطة السياسية للمنطقة تمهيدا لأن يكون على الخريطة الجغرافية مثله مثل أي شعب آخر من شعوب الشرق الأوسط. وبكلام أوضح، يستأهل الشعب الفلسطيني دولة يمارس فيها حقوقه المشروعة، دولة تؤمن له في الوقت ذاته إبراز هويته الوطنية التي يفتخر بها كما تحافظ على هذه الهوية وتضمن لكل فلسطيني حق العودة الى الدولة الفلسطينية...
ما تفعله "حماس" حاليا هو بكل بساطة محاولة للقضاء على الحلم الفلسطيني الذي صار قابلا للتحقيق والمتمثل في قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وكان المضحك المبكي في كلام هنية في خطابه الأخير اتهام السلطة الوطنية في رام الله بأنها فعلت كل شيء من أجل استمرار الحصار الذي يستهدف غزة وتشديده، في حين عملت السلطة كل ما تستطيع لفك الحصار عن القطاع وأمنت وصول ما تستطيعه من رواتب للموظفين الفلسطينيين. حتى هنية تسلّم راتبه بصفة كونه عضوا في المجلس التشريعي الفلسطيني.
لم يكن الفشل الضخم لـ"حماس" في رفضها أن تكون غزة بعد الإنسحاب الإسرائيلي الآحادي الجانب نموذجا لما يمكن أن تكون عليه الدولة الفلسطينية مستقبلا فحسب. تمثل الفشل أيضا في تشويهها لصورة الشعب الفلسطيني. ظهر هذا الشعب من خلال الذين حضروا الى القاعة للاستماع الى خطاب هنية أشبه بالذين يحضرون مهرجانا خطابيا أو يشاركون في تجمع ذي طابع ديني في طهران. هذه ليست صورة الشعب الفلسطيني الحضاري التي يعرفها العالم. ولكن من حسن الحظ أنه كان هناك في الوقت ذاته احتفال في رام الله لتكريم المبدعين والمتميزين من أبناء الشعب الفلسطيني يقف خلفه أبن نابلس السيد صبيح المصري أحد رموز النجاح الفلسطيني في فلسطين والمنطقة والعالم. وتولى رئيس السلطة الوطنية السيد محمود عبّاس توزيع الجوائز على الفائزين بها وكأنه يقول للعالم وكل من يعنيه الأمر أن هذا هو الوجه الحقيقي لفلسطين وأن هذا الوجه حضاري قبل أي شيء آخر تقف فيه المرأة الى جانب الرجل بكل فخر وأعتزاز.
لا يعالج الفشل بمزيد من المكابرة والتهرب من المسؤولية. في حال كانت "حماس" حرة فعلا في قرارها، وهنا بيت القصيد، ليس أمامها سوى الإعتذار وإعادة غزة الى السلطة الوطنية والإلتحاق بالسياسة العقلانية لـ"أبومازن". إنه المخرج الوحيد من الحصار والعزلة. هل تتجرأ على ذلك، أم أن الحلف غير المعلن مع الإحتلال الإسرائيلي يجعلها تعالج الخطأ بخطأ أكبر منه لا لشيء سوى لأن زوال الإحتلال لا يهمها بمقدار أن همها الأول والأخير تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.