في السابع من تشرين الثاني من العام 1987، طغى الحدث العربي المتمثل في انعقاد قمة عمان التي عكست تحولا كبيرا على الصعيد الاقليمي على حدث مهم اخر شهده المغرب العربي في ذلك اليوم. فقد فوجئ المشاركون في القمة، التي كان الهدف منها انهاء القطيعة مع مصر بسبب توقيعها معاهدة سلام مع اسرائيل، بتغيير في تونس ارتدى طابعا سلميا. في يوم انعقاد القمة في العاصمة الاردنية، تولى الرئيس زين العابدين بن علي الرئاسة خلفا للرئيس الحبيب بورقيبة الذي تقدم في السن وفقد قدرته على ممارسة مسؤولياته. اذا كانت قمة عمان ساهمت في اعادة الوضع العربي الى طبيعته نسبيا، اي الى ان تكون مصر داخل المجموعة العربية، فإنّ التغيير الذي شهدته تونس كان ايضا حدثا مهما بكل المقاييس متى نظرنا الى التجربة التي مر فيها البلد في العقدين الاخيرين.
ساهم التغيير الذي شهدته تونس في ذلك اليوم قبل عشرين عاما بالتمام والكمال، في انقاذ بلد عربي والمحافظة عليه في ظل ظروف داخلية واقليمية في غاية التعقيد. من يريد ادراك اهمية الحدث التونسي، يستطيع ان يسأل نفسه ماذا كان سيحل بهذا البلد العربي المعتدل لو لم يحصل التغيير في الوقت المناسب؟ للاجابة عن هذا السؤال، لا بد من العودة بالذاكرة الى خلف قليلا واستعادة الظروف التي رافقت تولي الرئيس بن علي مهماته. تبين، لدى عرض مسلسل الاحداث، انه كانت هناك قبل كل شيء محاولة جدية يقوم بها الاسلاميون المتطرفون للاستيلاء على السلطة مستفيدين من الوهن الذي كان يعاني منه النظام بسبب الوضع الصحي لبورقيبة وما رافقه من ترهل لمؤسسات الدولة. من لديه ادنى شك في ذلك يستطيع العودة الى ما شهدته الايام الاخيرة من عهد الرئيس الراحل، الذي لم يكن صاحيا سوى لساعات قليلة في اليوم. شهدت تلك الايام مواجهة مع الاسلاميين وتشددا واضحا تجاههم. كذلك، عليه ان يأخذ في الاعتبار ان بن علي باشر عهده بالتساهل مع من كانوا يعتبرون انفسهم اسلاميين معتدلين في تونس، الى ان تبين ان لا وجود لمثل هذا النوع من الاسلاميين في هذا البلد، بل ان هدف هؤلاء استغلال الدين لتحقيق اهداف سياسية واضحة على رأسها الوصول الى السلطة ولا شيء غير السلطة، بغية تغيير طبيعة المجتمع. كان لا بد في لحظة معينة من اتخاذ الاجراءات المطلوبة للحؤول دون تدهور الوضع التونسي.
بعد اقل من سنة على حصول التغيير في تونس، انفجر الوضع في الجزائر في تشرين الاول/ اكتوبر 1988. كان الوضع في تونس مرشحا لأن يكون اسوأ من الوضع الجزائري حيث سقط ما يزيد على مئة وخمسين الف قتيل في خلال سنوات قليلة. في الجزائر، قتل مئات بل آلاف ذبحاً. لا يزال البلد يعاني حتى يومنا هذا من اثار حرب اهلية تسبب بها نظام يعتبر ان الارهاب لا يمكن ان يعالج الا عبر العنف والاستئصال من جهة وحركة اسلامية تظن من جهة اخرى ان السلطة في متناول اليد عبر الانتخابات... شرط ان لا تكون هناك انتخابات سوى لمرة واحدة تتغير بعدها كل قوانين اللعبة الديموقراطية لمصلحة من يفوز في الانتخابات.
تكمن اهمية التجربة التونسية التي يمكن ان تكون هناك بعض المآخذ عليها، خصوصا في مجالات معينة من بينها الاعلام الذي لم يمتلك القدرة على تسويقها بما يليق بها، اضافة بالطبع الى بعض التراجع في الحياة السياسية مقارنة مع ما كانت عليه في الماضي، بالتركيز على الجانب الاجتماعي. نجحت التجربة في اقامة طبقة متوسطة كبيرة، صارت العمود الفقري للمجتمع التونسي. تمتلك هذه الطبقة مصلحة في التطور والتقدم والانتماء الى المستقبل بدل الغرق في متاهات التخلف التي تقود الى مزيد من التردي والظلامية والتطرف والنزاعات الداخلية. نجحت في ذلك، على الرغم من ان تونس بلد فقير بموارده الطبيعية التي تكاد تكون شبه معدومة مقارنة مع الجارين الليبي والجزائري. لكن الذي حصل انه امكن تعويض هذا النقص عبر التركيز على تنمية الثروة الانسانية بالاعتماد على تطوير البرامج التربوية وتحديثها مع التمسك بالمكاسب التي حققتها المرأة منذ استقلال تونس. اكثر من ذلك جرى تطوير للقوانين التي تحافظ على حقوق المرأة بصفة كونها تمثل نصف المجتمع. وكما في اي مجتمع حديث على تماس مع العالم المتحضر، من غير الطبيعي الا يكون هذا النصف منتجا ومساهما في زيادة الثروة الوطنية. اعتمدت تونس على الانسان بما يمثله من ثروة واستطاعت، بشهادة الارقام، الانتصار الى حدّ كبير على الفكر المتطرف وعلى المتطرفين. انه صراع لا تنفع معه الوسائل القمعية وحدها. ما ينفع هنا مزيج من الاجراءات في اساسها وجود طبقة وسطى واسعة قادرة على فهم ان التطرف بكل اشكاله هو عدوها الاوّل.
كان السابع من تشرين الثاني العربي بداية ادراك لواقع يتمثل في ان المنطقة تغيّرت وأن على العرب التوقف عن المزايدة على بعضهم بعضا. كانت قمة عمان التي انعقدت قبل عشرين عاما محاولة عربية للتصالح مع الواقع. نجحت المحاولة جزئيا للأسف الشديد. هناك الى الان من يعتقد ان المتاجرة بالشعب الفلسطيني وقضيته يمكن ان تكون استثمارا سياسيا وأن الانتصار على لبنان وشعبه بديل من الانتصار على اسرائيل. اما 7 تشرين الثاني التونسي فكان بداية تجربة تصب في حماية بلد عربي من التطرف بما يخدم شعبه ومحيطه في آن. كانت تونس المستقرة السند الحقيقي لليبيا لدى تعرضها لعقوبات ظالمة عندما اختارت الولايات المتحدة ان تكون الجماهيرية كبش الفداء في قضية لوكربي التي سيتبين يوما ان جهات اخرى تقف وراءها. في كل الاحوال، بين السابع من تشرين الثاني 1987 العربي والسابع من تشرين الثاني 1987 التونسي، يكتشف المواطن العربي ان الايام العربية ليست كلها اياما سوداء!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.