ما يلاحظه المراقب العربي لما يدور داخل المؤسسات والمعاهد التي تهتم بالدراسات في واشنطن أن إدارة بوش الإبن تتصرف بالطريقة ذاتها التي تصرفت بها في الأشهر التي سبقت الحرب على العراق. قلة فقط من الباحثين والأكاديميين تصدّق ما يسرّبه مسؤولون ومستشارون لبوش الإبن إلى الصحافة عن عدم رغبته في الحرب. آخر ما سربه هؤلاء صدر في صحيفة "الواشنطن بوست" قبل أيام عن أن الهدف من فرض عقوبات جديدة على إيران هو تفادي الحرب. وبرر مستشارون للرئيس الأميركي العقوبات ذات الطابع الاقتصادي والديبلوماسي والسياسي والمالي التي اتخذتها الإدارة من جانب واحد بأنها تستهدف الضغط على إيران كي تتراجع عن برنامجها النووي لا أكثر... وذلك تفادياً للحرب من جهة وكي لا يجد خليفة الرئيس الحالي نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما من جهة أخرى. الخيار الأول هو إيران نووية لا مفر أمامه من التعايش معها والآخر الخيار العسكري للتخلص مما يسمى في واشنطن "الخطر الإيراني".
لا يقتصر النقاش في الأروقة السياسية على "الخطر الإيراني" في حد ذاته، بل يشمل المشروع الإيراني ككل وما تمثله إيران على الصعيد الإقليمي، والمعني بالمشروع المتكامل الذي بدأ الأميركيون يتحدثون عنه بتأخير يزيد على أربع سنوات، إيران الطامحة إلى أن تكون القوة العظمى الأقليمية. ولعلّ اكثر ما يقلق الأميركيين قدرة النظام في طهران على التمدد في اتجاهات عدة مستفيدا بشكل خاص من المأزق الأميركي العميق في العراق. بدأ الأميركيون يعترفون بأن إيران كانت المنتصر الأول، بل الوحيد من الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق. ويعترفون في الوقت ذاته بأن الولاء الحقيقي لكل الميليشيات الشيعية في العراق هو لإيران أولاً وذلك بغض النظر عن التناحر الذي يصل أحياناً إلى حد الأقتتال في ما بينها. تتقاتل هذه الميليشيات، أكانت تابعة لـ "حزب "الدعوة" الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء السيد نوري المالكي، أو تابعة لـ "المجلس الأعلى للثورة الأسلامية" أو للسيد مقتدى الصدر على مناطق النفوذ والغنائم، لكن الخط الأحمر الذي لا تتجاوزه هو مرجعيتها الإيرانية التي تتحكم بكل قراراتها وترسم لها حدود تحركها وهامش الحرية الذي تتمتع به. ولعل أكثر ما يقلق الأميركيين اكتشافهم أن الميليشيات الشيعية وراء معظم العمليات التي تستهدف قواتهم في العراق، خصوصا عمليات التفجير عن بعد للآليات العسكرية التي تنقل جنوداً، وهي تفجيرات تذكّر بعمليات اغتيال لشخصيات لبنانية. لم يعد الجنرال بترايوس قائد القوات الأميركية في العراق يخفي أن الأسلحة الإيرانية تتدفق على الميليشيات الشيعية بما في ذلك أجهزة التفجير المتطورة التي حققت إصابات مباشرة في صفوف القوات التي في أمرته.
هناك بإختصار وعي أميركي من نوع مختلف لخطورة المشروع الإيراني للمنطقة الذي يتجاوز العراق ليشمل منطقة الخليج إضافة بالطبع إلى المشرق العربي، أي سوريا ولبنان وفلسطين. وفي هذا السياق، يؤكد المطلعون على كيفية اتخاذ االإدارة الحالية لقراراتها أن ثمة خيارات عدة تدرس في واشنطن. تصب كل الخيارات في إتجاه واحد يتمثل في التصدي للمشروع الإيراني المتكامل الذي تبين أنه المشروع الوحيد الذي لا يزال حياً بعد سقوط كل المشاريع الأخرى، بما في ذلك المشروع الأميركي الذي وضع نصب عينيه تغيير الأنظمة العربية انطلاقا من العراق "الديموقراطي". فإذا بالعراق ينتهي دولة مقسمة، على أسس مذهبية وقومية لا علاقة لها بالديموقراطية لا من قريب ولا من بعيد، دولة لا هوية واضحة لها. اضافة إلى ذلك، تحوّل الجنود الأميركيون في العراق رهائن لدى إيران القادرة، متى شاءت، على إلحاق كل أنواع الأذى بهم.
لا شك أن الموقف الإسرائيلي يضغط في اتجاه التسريع في اتخاذ القرار الأميركي الحاسم، نظرا إلى أن الدولة اليهودية تعتبر نفسها غير قادرة على التعايش مع قنبلة نووية إيرانية ورئيس إيراني يدعو إلى إزالتها من الوجود. لكن جديد واشنطن هذه الأيام، لا يتمثل في الضغط الإسرائيلي في اتجاه اتخاذ موقف حاسم من البرنامج النووي الإيراني فحسب، وهو ما فعله نائب الرئيس قبل أيام في مؤتمر لـ"مهعد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، بل ظهر أيضا ما يمكن اعتباره بداية تحول في الموقف الأسرائيلي من النظام السوري. إلى ماقبل فترة قصيرة، كانت إسرائيل أشد المدافعين عن النظام في دمشق من منطلق أنه ضمانة لاستمرار الوضع الراهن في الجولان المحتل حيث هدوء تام لا تعكر صفوه ولو رصاصة واحدة منذ العام 1974. هذه الأيام، بدأ النشاط العسكري السوري في لبنان والذي في أساسه استمرار عملية تسليح "حزب الله" يثير مخاوف اسرائيلية، على الرغم من أن سلاح "حزب الله" بات موجها إلى اللبنانيين الآخرين منذ نهاية حرب صيف العام 2006 بالطريقة التي انتهت بها.
خلاصة الأمر أن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بامتلاك كل هذه الأوراق في المنطقة. وبكلام أوضح، لن تقبل بأن تكون إيران صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في منطقة الخليج حيث أكبر احتياط لمصادر الطاقة في العالم. في الماضي حاول صدّام حسين ما يحاوله النظام الإيراني حالياً. صحيح أن النظام الإيراني أكثر دهاء بكثير من غبي اسمه صدّام حسين، لكن الصحيح أيضاً أن القوة العظمى الوحيدة في العالم لا يمكن أن تقبل بمن يتفاوض معها على مصادر الطاقة في المنطقة. المسألة مسألة حياة أو موت لأميركا ولكل القوى الصناعية الأخرى في العالم، من اليابان إلى أوروبا على سبيل المثال وليس الحصر ليس إلاّ!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.