يصعب تجاهل ما أسفرت عنه من نتائج سياسية حرب مخيم نهر البارد التي كانت حرباً أخرى على لبنان بهدف إلغائه. وحده الأعمى لا يستطيع رؤية ما يجري في لبنان والتحولات التي يشهدها البلد خصوصا بعد حرب المخيم الفلسطيني التي كانت حربا بكل معنى الكلمة. يتبين من ردود الفعل على نتائج ما حصل في نهر البارد كم كانت هذه الحرب مهمة وكم يمكن اعتبارها نقطة تحول على صعيد لبنان ككل، لا لشيء سوى لأنها أكدت أن هناك قرارا سياسيا في لبنان وأن هناك حكومة قادرة على اتخاذ القرار وتحمل مسؤولياتها. وحده قرار الحكومة جعل الجيش اللبناني فعالا. وحده قرار الحكومة سمح بالذهاب الى النهاية في المعركة الهادفة الى إثبات أن هناك قرارا سياسيا مستقلا في لبنان وأن من يعتدي على الجيش اللبناني لا بد أن يعاقب.
كان القرار السياسي بالذهاب الى النهاية في حرب المخيمات دليلا على وجود قرار لبناني مستقل يرتكز على شعار لبنان أولا. بعد حرب مخيم نهر البارد لم يعد هذا الشعار كلاما فارغا. صار حقيقة. صار واقعا لا يمكن تجاهله. أكدت حرب مخيم نهر البارد أن الجيش اللبناني جيش حقيقي بكل معنى الكلمة كما الحاجة الى توفير إمكانات تجعل منه قادرا في المستقبل على مواجهة التحديات الجديدة التي سيواجها. والأهم من ذلك كله أن الشعب اللبناني كله، بكل طوائفه وفئاته وقف خلف الجيش رافضا أن يأخذ في الاعتبار التحفظات التي صدرت عن المشككين بدور هذه المؤسسة الوطنية الذين انقسموا الى فريقين. كان هناك أولا فريق يعتبر مخيم نهر البارد "خطا أحمر". هذا الفريق هو "حزب الله" الايراني الذي يخشى أي دور للجيش وأي تقليص للمربعات الأمنية الخارجة عن سلطة الدولة على الأرض اللبنانية. إن منطق "حزب الله" مفهوم ومبرر نظرا الى أن تطلعات الحزب لا علاقة لها بلبنان لا من قريب ولا من بعيد. إنه حزب لا يؤمن بالكيان اللبناني ولا يهمه وجود هذا الكيان أو عدم وجوده. كل ما يريده هو استخدام لبنان واللبنانيين وكل من يستطيع استئجاره من أدوات، على نسق النائب ميشال عون، في خدمة المشروع الذي يؤمن به، أي المشروع الايراني لا أكثر ولا أقل.
كان هناك فريق آخر يخشى تحقيق الجيش انتصاراً في مخيم نهر البارد. لعلّ أفضل من يعبر عن هذا الفريق الجنرالان أميل لحود وميشال عون اللذان يتبين يوميا أنهما توأمان من بطن ام واحدة هي النظام السوري. سارع الجنرالان الى الرد على الانتصار الذي تحقق، وهو الأول من نوعه في تاريخ لبنان، عن طريق الدعوة الى إجراء تحقيق في ملابسات وصول عناصر "فتح الأسلام" الى مخيم نهر البارد. الهدف واضح كل الوضوح. إنه يتمثل في السعي الى النيل من الرئيس الشهيد رفيق الحريري وعائلته باستخدام أكاذيب لا تنطلي سوى على الأغبياء من نوع أن عناصر عصابة "فتح الأسلام" كانت مرتبطة بآل الحريري وبحكومة فؤاد السنيورة. لا تنم الايحاءات الصادرة عن اميل لحود وميشال عون سوى عن جهل هو في الواقع تعبير عن حقد أعمى على لبنان وعلى مشروع الانماء والاعمار الذي نفّذه رفيق الحريري وبذل الرخيص والغالي من أجل اتمامه ودفع أخيرا حياته ثمنا لهذا النجاح ولاستكمال استعادة لبنان استقلاله.
معذور "حزب الله" عندما يدافع عن "فتح الأسلام"، خصوصا أنه لا يرى ضررا في انتشار عصابات من هذا النوع وتمددها في الأراضي اللبنانية، خصوصا في الشمال حيث أكثرية سنية. لكن لا عذر لأميل لحود وميشال عون اللذين يدعيان أنهما يريدان مصلحة لبنان. قبل الحديث عن مصلحة لبنان عليهما تعلم ألف باء السياسة. قبل التطرق الى عصابة "فتح الاسلام"... عليهما الاتيان بمن يعلمهما أن زعيم العصابة كان سجينا في سوريا ودخل لبنان من الأراضي السورية. عليهما أن يتعلما ما هي "فتح ـ الأنتفاضة" التي ورثتها "فتح الأسلام". لا مانع أن يتعلم الأنسان حتى حين يكون في سن متقدمة، لعل بعض العلم يخفف من حقده... ورذالته.
في النهاية، على من هم على شاكلة أميل لحود وميشال عون أن يتذكروا لدى محاولتهم الخروج بإيحاءات معينة، أن قرار الحكومة استخدام الجيش للتصدي لعصابة شاكر العبسي قطع الطريق على مخطط سوري في غاية الخطورة يستهدف تحويل شمال لبنان قاعدة لـ"القاعدة" أو ما شابهها بهدف القول للعالم ان هذه نتيجة خروج القوات السورية من لبنان. مرة أخرى لم تكن الحسابات السورية دقيقة. لم يكن الجيش اللبناني قادرا على التصدي لـ"فتح الأسلام" بفعالية لولا احتضان أهل الشمال، ومعظمهم من السنة. لعب المواطنون العاديون دورا أساسيا في حماية الجيش وتوفير الدعم له. لقد رفع أهل السنة في الشمال كما في كل أنحاء لبنان شعار "لبنان أولا" عاليا مظهرين مدى إخلاصهم للشعار ومدى استعدادهم لوضعه موضع التنفيذ. ما حصل في مخيم نهر البارد يختصر التحول الذي طرأ على اللبنانيين، خصوصا على السنة. الى ما قبل سنوات كان السنة يعتبرون الفلسطينيين جيشهم. الآن لا جيش للسنة وغير السنة غير الجيش اللبناني. كانت خطيئة النظام السوري الذي يرفض أخذ العلم بأن هناك شعورا وطنيا حقيقيا لدى اللبنانيين، جميع اللبنانيين وأن كل رهاناته على أن المجتمع اللبناني غير قابل على بناء دولة متى توافرت له الظروف في غير محلها. اليوم فوجئ النظام السوري بالسنة في شمال لبنان. أمس فوجئ بالدروز. وقبل ذلك بكثير فوجئ بالمسيحيين. ليس بعيدا اليوم الذي سيفاجأ بالشيعة يرفعون بدورهم شعار لبنان أولاً!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.