شهد لبنان في أسبوع واحد حدثين يرتديان طابعين إيجابيين. يتمثل الأول في المبادرة التي أطلقها رئيس مجلس النواب السيد نبيه برّي والآخر في سيطرة الجيش اللبناني على مخيم نهر البارد بعد تنظيفه من عناصر عصابة "فتح الإسلام" السورية اثر معارك استمرت مئة وستة أيام سقط خلالها ما يزيد على مئة وخمسين شهيداً من الضباط وضباط الصف والجنود من عناصر الجيش الوطني.
لا يمكن إلا النظر بإيجابية إلى مبادرة الرئيس نبيه برّي على الرغم ان ما يعتبره رئيس مجلس النواب تنازلاً تقدمه المعارضة ليس تنازلاً في شيء بمقدار ما انه تحصيل حاصل. كلّ ما في الأمر ان المعارضة بأدواتها التابعة مباشرة للمحور الايراني ـ السوري، مثل "حزب الله" أو تلك المستأجرة مثل الجنرال النائب ميشال عون لم تستطع إسقاط الحكومة. لم تستطع في الواقع إسقاط الحكومة الشرعية المتمتعة بأكثرية في مجلس النواب المغلق برئاسة فؤاد السنيورة. لم تسقط الحكومة لسبب في غاية البساطة، انها تمثل كل لبنان وجذورها راسخة في كل شبر من أرض لبنان وفي قلوب كل اللبنانيين الشرفاء الذين يرفضون ان يكون بلدهم الصغير "ساحة" تستخدم لعقد صفقات على حسابه وعلى حساب شعبه مع "الشيطان الأكبر" الأميركي أو "الشيطان الأصغر" الإسرائيلي.
لم تسقط الحكومة على الرغم من كل المحاولات التي بذلت من أجل إسقاطها بما في ذلك النزول إلى الشارع في الثالث والعشرين والخامس والعشرين من كانون الثاني الماضي وعلى الرغم من مخيم البؤس والبؤساء الذي اقيم في وسط بيروت، اقيم المخيم بغية تعطيل الحياة في قلب العاصمة في محاولة واضحة يقف وراءها النظام السوري الذي يريد استكمال حرب إسرائيل على لبنان وعلى كل ما هو حضاري فيه.
قبل ذلك، لم تسقط الحكومة بعدما صمدت في وجه العدوان الإسرائيلي الذي تسبب به "حزب الله" الذي أراد تأكيد انه السلطة في لبنان وأنه على استعداد للتضحية بآخر لبناني في آخر قرية جنوبية من أجل أن يتمكن النظام الايراني من تحسين شروط التفاوض مع أميركا وإسرائيل.
ومع ذلك ومع ان ورقة "حكومة الوحدة الوطنية" كما يسمّيها النظام السوري وأتباعه، ليست ورقة، لا يمكن إلا النظر بإيجابية إلى مبادرة الرئيس برّي. لا بدّ من الاعتراف بأنّ المبادرة جاءت في وقتها، يكفي أنها أزالت كل وهم ارتسم في عقول مريضة في شأن ما إذا كان ميشال عون يصلح للرئاسة، شطب نبيه برّي "الجنرال" من لائحة الذين يصلحون للرئاسة، وهذا انجاز في حدّ ذاته كما يعتبر سبباً كافياً لدعوة أركان الأكثرية إلى دراسة مبادرة رئيس مجلس النواب بجدّية وتمعن. عليهم أن يفعلوا ذلك في ضوء حاجة لبنان إلى احترام المواعيد الدستوية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية كما في أي بلد يتمتع بنظام ديموقراطي فيه مجلس للنواب منتخب من الشعب وليس معيناً من قبل الأجهزة الأمنية كما الحال في سوريا التي يظهر النظام فيها حرصاً مفاجئاً على الوحدة الوطنية والوفاق بين اللبنانيين!.
كان الحدث الإيجابي الآخر انهيار عصابة شاكر العبسي السورية في مخيم نهر البارد بعدما أصرّ الجيش اللبناني بتوجيهات من الحكومة وإصرار منها على القضاء على الإرهابيين الذين أرسلتهم الأجهزة السورية إلى لبنان للعبث بأمنه والاعتداء على جيشه الوطني، دفع الجيش ثمناً كبيراً من أجل القضاء على العصابة الإرهابية ومن أجل تأكيد ان مخيم نهر البارد ليس "خطاً أحمر" على حدّ تعبير الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله الحريص على نشر المربعات الأمنية في كل أنحاء لبنان. ربما أراد الأمين العام للحزب أن يثبت بالوقائع عبر رفضه التصدي لعصابة شاكر العبسي، ولو بالكلام، ان لبنان في حاجة مستمرة ودائمة إلى الوصاية السورية وأنه لا يصلح إلا "ساحة" للمحور الايراني ـ السوري يستخدمها لتصفية حساباته مع العرب وغير العرب..
من نهر البارد بدأت رحلة الألف ميل. رحلة استعادة لبنان سيادته على كل شبر من أرضه، رحلة إثبات انه وطن يستحق الحياة وأنه ليس مجرد "ساحة" يخوض فيها الآخرون حروبهم. لا شك ان الرحلة صعبة ومليئة بالأشواك والعراقيل، خصوصاً ان النظام السوري لا يزال يعتقد ان في استطاعته مواجهة المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه والجرائم الأخرى عن طريق خلق مشاكل أمنية في لبنان. ولكن هل أمام لبنان خيار آخر غير السير في هذه الرحلة الطويلة؟.
الجواب أن لا خيار آخر، شهداؤنا لا يمكن أن يرضوا بخيار آخر. من رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما إلى وليد عيدو مروراً بكل الأحباء، أي سمير وجبران وجورج وبيار. مَن كان يصدّق ان الجيش سيصمد في نهر البارد؟ مَن كان يصدق ان الحكومة لا يمكن أن تتراجع عن السير إلى النهاية في التصدّي للإرهاب وأنها لن تسكت عن جريمة المسّ بالجنود والضباط اللبنانيين؟ مَن كان يصدّق ان فؤاد السنيورة سيلقي يوماً الخطاب التأسيسي الذي ألقاه الأحد الماضي في الثاني من أيلول 2007 وتحدث فيه، بعد ساعات من سقوط مخيم نهر البارد وعودة السيادة اللبنانية عليه، وعن السيادة على كل أرض لبنان؟.
رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة. المهم الآن بعد الذي حصل في نهر البارد وعلى الرغم من ان النظام السوري سيفتح جبهات أخرى، ان تجري انتخابات الرئاسة في موعدها، ذلك هو التحدّي الكبير أمام لبنان في الشهرين المقبلين، إنه ليس تحدياً سهلاً في أي شكل، لكن لبنان العربي، الديمقراطي، الحرّ، السيّد، المستقل يستأهل كل هذه التضحيات وأكثر منها.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.