لدى سماع الكلام الذي يصدر عن مسؤولي "حماس" في غزة وطريقة تصرفاتهم مع القوى السياسية الأخرى، يخشى أن يكون الهدف من استيلاء الحركة الاسلامية على القطاع عن طريق ميليشيا خاصة بها تكريس واقع تقسيمي. وبكلام أوضح، يخشى أن يكون هدف "حماس" الفصل النهائي بين الضفة الغربية وغزة ما دام ليس في امكانها تكرار تجربتها في الضفة لأسباب عدة على رأسها أن موازين القوى هناك مختلفة وأن طبيعة المجتمع الفلسطيني في الضفة وتركيبته مختلفان عن ذلك الذي في غزة.
تتبجح "حماس" بأنها استطاعت فرض الأمن في غزة. لا شك أنه كان هناك فلتان أمني في القطاع تتحمله الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الوطنية، وبالتالي لـ"فتح" مسؤولية معينة عنه. ولكن ما لا يمكن تجاهله في المقابل أن مسؤولية الفوضى الأمنية التي كانت سائدة في القطاع مسؤولية مشتركة. لم تفعل "حماس" شيئا، منذ فوزها في الانتخابات التشريعية قبل ما يزيد على سنة ونصف سنة ثم تشكيلها حكومة، باستثناء تغذية فوضى السلاح عن سابق تصور وتصميم من جهة والعمل بجد من أجل اقامة ميليشيا خاصة بها سمّيت "القوة التنفيذية" من جهة أخرى. وهكذا، صار سهلاً الآن على من لعب دوراً أساسياً في خلق فوضى السلاح في القطاع الإدعاء بأنه قضى على هذه الفوضى وجعل الأمن مستتباً بمجرد أنه باتت لديه مصلحة في الأمن وفي فرضه بالقوة.
كان ملفتاً قبل استيلاء "حماس" على غزة في منتصف حزيران الماضي أن الحركة الإسلامية كانت توزع السلاح على كل من أراد. أكثر من ذلك، كان مسلحوها ينزلون الى الشارع باستمرار بغية اطلاق النار في الهواء وتأكيد أن هناك فلتاناً في الشارع وأن لا سلطة للقوى الأمنية التابعة للسلطة الوطنية عليه. هذه لعبة قديمة مارستها "حماس" لكنها لا تنطلي على أحد باستثناء السذج الذين يعتقدون أن فساد "فتح" وأجهزتها كان وراء تلك الفوضى التي عمت القطاع على نحو لا سابق له منذ اللحظة التي انسحبت إسرائيل منه صيف العام 2005 .
قبل كل شيء، لا وجود في الوقت الراهن لأمن في غزة. هناك سلطة تمارس القمع بطريقة لم يعهدها الفلسطينيون في الماضي حتى ابان الإحتلال الإسرائيلي. في فترة الإحتلال، كان الفلسطينيون يعبرون على الأقلّ عن آرائهم السياسية المتعددة. كان لديهم الحق في التظاهر حتى ضد الإحتلال وحتى ضد السلطة الوطنية وقراراتها والمواقف التي تتخذها. الآن، بات الفلسطينيون يعيشون في ظل نظام شمولي لا يشبه سوى ذلك الذي أقامته "طالبان" في أفغانستان والذي وفّر ملجأ آمناً لتنظيم "القاعدة". كان ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، يفتخر بما كان يسميه "ديموقراطية غابة البنادق". كان الشعب الفلسطيني مسلحاً وكانت هناك منظمات عدة وحتى ولاءات مختلفة. لكن السلاح لم يحل يوماً دون وجود تعددية سياسية تسعى "حماس" حالياً الى الغائها عن طريق التعرض حتى للأعراس بحجة أنه تطلق فيها أهازيج يفهم منها أن المحتفلين ينتمون الى "فتح".
يفترض في "حماس" أن تستوعب أن الأمن وحده لا يصنع سياسة. ما يصنع السياسة هو الموقف السياسي الواضح المرتكز على برنامج يمكن أن يساعد في ازالة الإحتلال. مثل هذا البرنامج السياسي يمكن أن يكون مدخلاً لمصالحة تشمل اعادة الوضع في غزة الى ما كان عليه قبل الانقلاب الذي نفذته "حماس". لا بديل آخر من الاتفاق على برنامج سياسي موحد وعن عودة "حماس" في الوقت ذاته عن انقلابها والاجراءات التي اتخذتها. لا بد من تعاطي الفلسطينيين مع موضوع السلام صفاً واحداً مستندين الى برنامج سياسي يقبل به المجتمع الدولي. ولهذا السبب، يفترض في "حماس" أن تمتلك ما يكفي من الشجاعة والاعتراف بأن ما فعلته كان خطأ وأن رفض العودة عنه سيكلف الفلسطينيين، خصوصاً أهل غزة الكثير.
ثمة واقع ليس في استطاعة أي جهة التخلص منه أو تجاوزه. هناك مليون ونصف مليون فلسطيني في سجن كبير اسمه غزة. المؤسف أن زوال الإحتلال الإسرائيلي لم يدفع الفلسطينيين الى تحويل غزة لنموذج لما يمكن أن تكون عليه الدولة الفلسطينية المستقلة. على العكس من ذلك، تدهورت أوضاع القطاع بعد الانسحاب الأسرائيلي بسبب فوضى السلاح أوّلاً. ومع مرور الوقت، تبين أن إسرائيل كانت الرابح الأول من الانسحاب نظراً الى أنه بات في استطاعتها القول للعالم أن الفلسطينيين غير قادرين على ادارة شؤونهم بأنفسهم، ولا يستأهلون بالتالي دولة مستقلة.
من حيث تدري أو لا تدري، خدمت "حماس" السلطة الوطنية الفلسطينية عندما حررتها من عبء غزة. السلطة استعادت حرية التحرك سياسياً بتشكيل حكومة برئاسة الدكتور سلام فياض تحظى باعتراف العالم. عادت غزة عبئاً إسرائيلياً، أعادت السلطة الوطنية لإسرائيل الهدية المسمومة التي تصر "حماس" على ابتلاعها. في النهاية ماذا تستطيع "حماس" أن تفعل بالقطاع اذا لم تستثمر ما تعتبر أنها حققته في المشروع السياسي الوحيد القابل للحياة، أي المشروع الذي ينادي به رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس؟
يقول المنطق إن على "حماس" التي لا تمتلك مشروعاً سياسياً غير الشعارات الطنانة التي لا معنى لها التراجع اليوم قبل غد. في حال لم تفعل ذلك، عليها أن تتذكر أن كل شيء في الشرق الأوسط يبدأ كإجراء موقت ثم يتحول مع الوقت الى شيء دائم. عليها أن تتذكر أن قبرص مقسمة منذ العام 1974، على الرغم من أنها جزيرة صغيرة. كيف الأمر حين لا يكون هناك ما يربط الضفة الغربية بغزة؟ ما الذي يمنع من العودة الى الوضع الاداري الذي كان سائداً بين 1948 و1967 من القرن الماضي؟ على "حماس" التفكير ملياً في الأمر، لا لشيء سوى لأن السلطة الوطنية في رام الله غير مستعجلة على استعادة غزة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.