كان لا بد من مرور بعض الوقت قبل التطرّق إلى نتائج انتخابات المتن في لبنان. تلك الانتخابات التي تواجه فيها الرئيس أمين الجميّل مع النائب ميشال عون الذي يمتلك أكبر كتلة مسيحية في مجلس النواب اللبناني. انضم نائب جديد إلى الكتلة النيابية لميشال عون وذلك ليحلّ مكان النائب والوزير بيار أمين الجميّل الذي اغتيل في تشرين الثاني الماضي. وقد حاول الجنرال تبرير خسارته هذا العدد الكبير من أصوات الموارنة، وهو أمر يحرمه من الادعاء بعد اليوم بأنه المرجعية الوحيدة للمسيحيين في لبنان، بحجّة أنه كان يواجه "الشهيد" بيار أمين الجميّل في الانتخابات. وكان يريد القول إن المعركة كانت صعبة لأنها كانت ضد "شهيد". هذا الاعتراف الذي يصدر ببرودة عن رجل يدل تاريخه على أنه يتصرف كعسكري في السياسة وكسياسي عندما تكون هناك حاجة إلى أن يكون عسكرياً، يجعل الخوف يدبّ في أي لبناني يمتلك حداً أدنى من الوعي السياسي. من لديه بعض الشعور الإنساني والأخلاق السياسية لا يخوض معركة مع "شهيد" من أجل انتزاع مقعد نيابي لا يقدّم ولا يؤخر.
ما حدث في المتن أمر في غاية الخطورة نظراً إلى أنها المرة الأولى في التاريخ اللبناني الحديث التي يقبل فيها شخص أو حزب أو تيار باستغلال القتل والإرهاب لتحقيق مآرب أو مكاسب سياسية. إنها المرة الأولى التي يتحوّل فيها القتل والإرهاب وسيلة للتخلص من الأكثرية القائمة في مجلس النواب. هذا حدث في حد ذاته يدل على أمرين أوّلهما أن ميشال عون يساهم في تبرير جريمة اغتيال بيار أمين الجميّل، وفي أحسن الأحوال في تغطيتها، والآخر أنه صار متشبعاً بثقافة الموت التي يؤمن بها حليفه "حزب الله" بديلاً من التشبث بثقافة الحياة.
إذا عدنا إلى تاريخ الجنرال، خصوصاً الممارسات التي لجأ إليها خلال وجوده في قصر بعبدا في الأعوام 1988 و1989 و1990 والحروب التي شنّها في تلك الفترة القصيرة على اللبنانيين جميعاً وما تسببت به من خسائر بشرية ومادية، نجد أن إيمان ميشال عون بثقافة الموت والبؤس والتخريب ليس جديداً وإن كان هذا الايمان ترسخ أكثر في شخصية الرجل الذي وجد في حليفه الجديد طرفاً أشد حقداً منه على كل ما له علاقة بالحياة والحضارة والانفتاح، فراح ينافسه في مجال التعمّق في هذه الثقافة. وربما كان هذا الحقد المشترك على كل ما هو إنساني وجميل ومنظم وعلى علاقة بالحياة وراء التفاهم الذي قام بين تيار الجنرال و"حزب الله" والوثيقة التي توصّلا إليها والتي خلت من أي إشارة إلى اتفاق الطائف الذي ينظم العيش المشترك بين اللبنانيين.
ولكن ثمة ملاحظات أخرى لا بد من ايرادها بعد كل ما حصل في المتن.
في طليعة الملاحظات أن ميشال عون أثبت مرة أخرى بالملموس أنه مجرّد أداة سورية وأنه مستمر في لعب الدور ذاته من حيث يدري أو لا يدري والأرجح أنه يدري. كان آخر دليل على ذلك، أنه كان كافياً أن تقرر دمشق أن عليه خوض المعركة حتى خاضها. كل ما طلبه من السوريين تأمين نجاح مرشحه. وبالفعل استطاعت دمشق تلبية ما تعهدت به إذ جيّشت الأصوات الشيعية في المتن وعددها ليس بقليل، عبر "حزب الله"، كما صوّت الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو فرع للأجهزة الأمنية السورية وامتداداً لبنانياً لها، لمرشح عون. أضف إلى ذلك أن النائب ميشال المر الذي يمتلك قاعدة شعبية في القضاء ألقى بثقله إلى جانب مرشح التيّار الحر (العوني) بعدما ضغط السوريون عليه ما فيه الكفاية.
وثمة ملاحظة ثانية تتعلق بالطائفة الأرمنية الكريمة التي هي جزء لا يتجزأ من التركيبة اللبنانية والنسيج والشعب اللبناني. إن المشكلة التي أثارتها انتخابات المتن لا تتعلق بالأمن كطائفة بمقدار ما أنها مرتبطة بحزب من أحزابها هو الطاشناق، يبدو أن عليه تلقي تعليمات من دمشق وطهران لأسباب مرتبطة إلى حد كبير بضرورة مراعاته للجاليتين الأرمنيتين في هذين البلدين، إضافة إلى حسابات أخرى ذات علاقة بعلاقات دولة أرمينيا مع محيطها والعداء المستحكم بين أرمينيا وتركيا. خرج حزب الطاشناق عن الحسابات الدقيقة التي يجريها عادة والتي تدل على حكمة كبيرة وأنزل ثمانية آلاف صوت ضدّ أمين الجميّل إرضاء لدمشق وطهران ليس إلا. الأكيد أن الحزب تصرف بطريقة لا تليق به كحزب لبناني عريق أوّلاً خصوصاً أن المعركة لم تكن معركته. سعى الطاشناق لاحقاً إلى الدفاع عن موقفه بالتصعيد الكلامي، علماً بأن لا بدّ من الاعتراف بأن بعض السياسيين اللبنانيين وجّه كلاماً غير لائق لا بالحزب ولا بالأرمن عموماً في ردّ فعل اتسم بالعصبية على نتائج انتخابات المتن.. لم يكن تصعيد أركان الطاشناق في محله بمقدار ما أنه أكد مدى تورطه في اللعبة الاقليمية التي ركزت على ليّ ذراع أمين الجميّل.
ثمة ملاحظة أخيرة تتمثل في أن السقوط السياسي لميشال عون الذي ترافق مع نجاح مرشحه في المتن كان نتيجة اختبارات عدة سقط فيها الجنرال في الماضي القريب. أبرز الاختبارات محاولته إغلاق المنطقة المسيحية في الثالث والعشرين من كانون الثاني الماضي تنفيذاً لتعليمات من "حزب الله" بهدف إجبار حكومة فؤاد السنيورة على الاستقالة. ما حصل في المتن سقوط آخر لميشال عون. مرة أخرى، إنها نكتة سمجة استمرت أكثر مما يجب..
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.