يمكن اعتبار موافقة السودان على القرار 1769 الصادر عن مجلس الامن التابع للامم المتحدة بمثابة نقطة تحول في السياسة التقليدية للرئيس عمر حسن البشير الذي سعى في الماضي الى عرقلة اي تحرّك دولي في اتجاه دارفور. كان النظام السوداني يستند في اعتراضاته إلى ان القوة الدولية او اي وجود اجنبي في دارفور يعتبر تنفيذاً لقرار كبير يستهدف تقسيم السودان وفصل دارفور عنه في اطار خطة اوسع تصب في النهاية في عملية الفصل بين شمال السودان وجنوبه. وبكلام اوضح، كانت هناك مخاوف مستمرة في الخرطوم من تقسيم السودان الى ثلاث دول على الاقل. الشمال والجنوب ودارفور. يمكن ان يكون النظام السوداني على حق في معارضته اي قوة دولية في حال كان هدفه النهائي المحافظة على وحدة الاراضي السودانية. لكنّ السؤال ماذا فعل النظام لمنع وصول الامور الى ما وصلت اليه، خصوصاً الى صدور القرار 1769؟.
أياً تكن التبريرات التي قدمتها الخرطوم تمهيداً لاعلان قبولها القرار 1769، وإن على مضض، لا يمكن تجاهل ان القرار الصادر عن مجلس الامن بالاجماع في غاية الاهمية والخطورة نظراً الى انه سيقود الى تشكيل اكبر قوة سلام تعمل حالياً في منطقة من مناطق العالم تحت غطاء الامم المتحدة. ستضمّ القوة التي يتوقع ان ترسل الى دارفور نحو ستة وعشرين ألف رجل بينهم سبعة آلاف من الجنود والعسكريين الافارقة. هذه ليست قّوة لمجرد فرض السلام في دارفور بمقدار ما انها قوّة لاخراج الحكومة المركزية من دارفور وتدويل قضية الاقليم. ولا شك ان ذلك لم يكن ممكناً لو تصرفت الحكومة السودانية بحكمة في السنوات الاخيرة ووضعت حدّاً لارتكابات ميليشيا الجنجويد التي كانت تحظى بدعمها والتي ارتكبت فظاعات. لو حصل ذلك، لما وصلت الامور الى ما وصلت إليه ولما تحدّث رئيس الوزراء البريطاني الجديد غوردون براون عن دارفور في الامم المتحدة واصفاً ما يدور في الاقليم بأنه "الكارثة الانسانية الاكبر" التي يشهدها العالم حالياً. كذلك تحدّث بروان قبيل تصويت مجلس الامن على القرار الذي وصفه بان كي مون الامين العام للامم المتحدة بـ"التاريخي"، عن مائتي الف قتيل في دارفور وعن مئات الآلاف الذين هجّرهم مقاتلو الجنجويد من منازلهم وقراهم وعن جرائم ارتكبت في الاقليم بتشجيع من الحكومة.
تستطيع الحكومة السودانية التذرع بأنّ القرار 1769 شدد على ان السيادة على دارفور لا تزال للسودان، لكن الواضح ان هناك رغبة دولية في ان يكون الامن تحت الاشراف المباشر للقوة الجديدة التابعة للامم المتحدة، وهي في الواقع قوة مشتركة بين المنظمة الدولية والاتحاد الافريقي. وهذا يعني في طبيعة الحال ان القوة الدولية المطعمة بأفارقة ستتولى الصلاحيات الامنية في الاقليم ذي المساحة الشاسعة والتي كان يفترض ان تمارسها السلطات السودانية المختصة. اي ان الحكومة السودانية تخلّت بطريقة او بأخرى عن جزء من صلاحياتها لمصلحة قوة خارجية ستتولى معتمدة القوة، حماية سكان الاقليم من جهة وضمان عدم المس بموظفي البعثات الدولية او المتطوعين الذين يؤمّنون توزيع المساعدات على السكان من جهة اخرى.
هل يمكن إلقاء اللوم كله على النظام السوداني وحكومة الرئيس عمر حسن البشير؟، الجواب ان النظام يتحمّل مساولية ضخمة نظراً الى رفضه وضع حد لممارسات الميليشات التابعة له بحجة ان النزاعات بين القبائل في المنطقة ذات طابع تاريخي وأنه كان هناك دائماً تقاتل من اجل الماء والاراضي الصالحة. اكثر من ذلك، تشير اوساط قريبة من النظام الى انه ليس صحيحاً ان الجنجويد وهم من العرب، يهاجمون الافارقة بدعم من الحكومة وتسليح منها. وتؤكد هذه الاوساط ان هناك قبائل عربية مستهدفة ايضاً وأنه من الصعب التفريق بين العربي وغير العربي في الاقليم.
الى ذلك، يتحمل النظام مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه الاوضاع، اقله لسببين. الاول انه وضع كل بيضه في السلة الصينية معتقداً ان الصين التي باتت تمتلك مصالح كبيرة في السودان ستحول دون صدور اي قرار عن مجلس الامن لا توافق عليه الخرطوم. اما السبب الاخر فهو عائد الى استخدام الخرطوم قضية دارفور والتشابك القائم بين القبائل في المنطقة لاثارة متاعب لدول الجوار بما في ذلك التشاد.
في النهاية، ربما كان الخطأ الاكبر للنظام السوداني تجاهله طبيعة الصراع الدولي القائم حالياً على افريقيا. لن يترك الاميركيون والاوروبيون الصين تسيطر على ثروات دارفور وجنوب السودان. هناك قواعد للعبة الدولية لم تدركها الخرطوم عن قصد او عن غير قصد. لم تدرك ان الحملات السياسية والصحافية وتلك التي تشنها المنظمات والجمعيات الانسانية والخيرية من اجل دارفور ليست كلها بريئة. لم تدرك انه ليس مصادفة ان دارفور كانت بين ابرز المواضيع التي بحث بها غوردون براون والرئيس الفرنسي الجديد نيكولا ساركوزي في اول لقاء لهما بعد تولي ساركوزي مهماته الجديدة. وبعد اللقاء اعلن الرئيس الفرنسي ورئيس الوزراء البريطاني استعدادهما للذهاب الى دارفور معاً بغية معالجة الاوضاع فيها. كذلك كانت دارفور موضوعاً اساسياً في اللقاء الاول بين الرئيس بوش الابن وغوردن براون في كامب ديفيد عشية صدور القرار 1769. لا شيء يحدث بالمصادفة في هذا العالم. ولكن لا بد من العودة الى السؤال الاوّل. هل النظام السوداني حريص على المحافظة على وحدة السودان، ام انه يعتقد ان تفتيت البلد وارد وأن عليه اعداد نفسه من الآن لهذا الاستحقاق، خصوصاً ان الجنوبيين يمتلكون حق تقرير المصير... وأن الاستفتاء على هذا الحق مسألة وقت ليس إلاّ!.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.