على الرغم من عودة الهدوء إلى غزة، يبقى واضحاً أن آفاق الحلول بين "فتح" و"حماس" لا تزال مسدودة. فقد تبيّن مع مرور الأيّام أن الاتفاق الذي توصلت إليه الحركتان قبل ثلاثة أشهر، لم تكن له فائدة تذكر باستثناء توفير هدنة بين الجانبين أستٌغلّت لتشكيل حكومة وحدة وطنية على أسس أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها قابلة لتفسيرات وتقويلات عدّة. في استطاعة كلّ من الرئاسة و"فتح" تفسير البيان الذي نالت الحكومة على أساسه الثقة في المجلس التشريعي بما يشير إلى أن "حماس"، التي لا تزال تحتفظ برئاسة الحكومة، قبلت الاعتراف بإسرائيل ضمناً. وهذا يعكس عملياً، من وجهة نظر معينة، تحوّلاً في موقف الحركة الإسلامية وفهماً لموازين القوى في المنطقة والعالم. هذا هو تفسير الرئاسة الفلسطينية و"فتح" للاتفاق، في حين تصرّ "حماس" على موقفها الداعي إلى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.
لا يمكن البناء على الغموض لدى السعي إلى التوصل إلى اتفاق بين "فتح" و"حماس". كان هناك من يريد البناء على الغموض من أجل كسب الوقت فقط. ولذلك صار الاتفاق في مهب الريح بعد الهزة الحقيقية الأولى التي تعرّض لها. ولكن أبعد من انهيار الاتفاق، إن ما بات على المحك مستقبل السلطة الوطنية. لقد تبيّن أن "حماس" لا تؤمن بهذه السلطة وتريد استخدامها مطيّة وأن لديها أجندة مختلفة كلّياً. ترتبط الأجندة "الحماسية" إلى حدّ كبير بالخارج من جهة، بإيران تحديداً ومشروعها الاقليمي، وبرغبتها في تغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني من جهة أخرى كي تتمكن من السيطرة عليه والتحكم به. إنّها تسير في هذا الخط بغض النظر عما إذا كان ذلك يفيد في معركة تحقيق الهدف الاستراتيجي القاضي بإقامة دولة فلسطينية "قابلة للحياة" تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. هدف "حماس" السلطة وليس الدولة. وهذا ما يفسّر انقضاضها على "فتح" أخيراً. ولذلك، باتت السلطة الفلسطينية مهددة أضافة إلى أن استمرار الحكومة الحالية صار مستحيلاً. لا يمكن أن تلتقي "فتح" و"حماس" على قواسم مشتركة بعد الآن ما دامت الحركة الإسلامية مصممة على المضي في مشروع الاستيلاء على السلطة وتطويع المجتمع الفلسطيني.
تكمن مشكلة "حماس" والذين يسيّرونها من خارج في أنها لا تدرك أن الوقت لا يعمل لمصلحة القضية الفلسطينية. لو كانت تدرك ذلك، لكانت استوعبت أن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لا تكون بالتحالف الضمني مع الاحتلال بغية إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية، خصوصاً رئيس السلطة السيّد محمود عبّاس (أبو مازن) الذي لا يزال يحظى باحترام العالم واعترافه. ليس صدفة أن يكون هناك تفاهم ضمني بين المتطرفين في الجانبين العربي والإسرائيلي على تقويض السلطة الوطنية ومؤسساتها. والواضح، أن "حماس" تكمل حالياً ما بدأه أرييل شارون والذين خلفوه في مجال ضرب كلّ المؤسسات الفلسطينية. ماذا فعل شارون منذ بداية العام 2001 غير ضرب مؤسسات السلطة من أي نوع كان مع تركيز خاص على الأجهزة الأمنية التابعة لها؟
يقضي انفجار الوضع في غزة على أي أمل في استمرار الحكومة الحالية التي هي الثمرة الوحيدة لاتفاق غزة، إضافة بالطبع إلى هدنة الأشهر الثلاثة التي وفّرها لأهل القطاع. ويقضي أيضاً على الآمال الضئيلة في إمكان تحقيق تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وما يثير القلق الشديد، أن الجانب الإسرائيلي أخذ في ما يبدو علماً بالنتائج الكارثية التي ستترتب على أحداث غزة. وكان أفضل تعبير عن النيات الإسرائيلية المبيتة كلام شمعون بيريس في مؤتمر البتراء للحائزين على جائزة نوبل عن رفضه استخدام كلمة "احتلال" لوصف الوضع في الضفة الغربية. إنّه كلام في غاية الخطورة ذلك الذي صدر في مؤتمر البتراء قبل أيّام عن نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي يعتبر نفسه من الحمائم. إذا كان الوضع السائد في الضفة الغربية منذ أربعين عاماً ليس احتلالاً، فما هو إذاً التوصيف المتعارف عليه عالمياً للاحتلال؟ يبدو أن إسرائيل تتوقع، من خلال كلام بيريس، أحداثاً كبيرة في المنطقة وهي تهيئ نفسها لمرحلة ما بعد هذه الأحداث حين سيعود الحديث عن أراضٍ "متنازع عليها" بدل "أراض محتلة" لدى التطرق إلى مستقل الضفة الغربية.
مرة أخرى، يخسر الفلسطينيون المعركة سياسياً. هذه المرة يضحون بما يزيد على أربعة عقود من النضال السياسي من أجل أن يكونوا مجدداً وقوداً لمعارك القوى الاقليمية ونزاعاتها. هذه جريمة تُرتكب في حق الشعب الفلسطيني الذي يواجه محاولة إسرائيلية جديدة لتكريس الاحتلال. ولذلك، يُفترض في حركة مثل "حماس" الانتباه والتنبه للمشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي لا يقاوم إلاّ ببرنامج سياسي واضح يخاطب العالم بلغة العصر من جهة وبتصرّفات تظهر أن الشعب الفلسطيني يستأهل دولة مستقلة قابلة للحياة وليس من هواة فوضى السلاح من جهة أخرى. من دون الإقدام على هاتين الخطوتين المبنيتين على الوضوح أوّلاً، يُخشى أن يكون ما قالته شخصية فلسطينية كبيرة صحيحاً. لدى سؤال هذه الشخصية، على هامش مؤتمر البتراء، عن الأسباب التي تحول دون امتداد الحرب الأهلية من غزّة إلى الضفّة الغربية، كان جوابها أن "حماس" تمتنع عن عرض عضلاتها في الضفة بسبب وجود الاحتلال. الخوف كل الخوف أن يكون هناك أساس لهذا الكلام واقعياً بعدما شهدنا ما يفعله الفلسطينيون بأنفسهم وما يرتكبون في حق قضيتهم...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.