8 آذار 2019 | 00:00

أرشيف

تحية لجاك شيراك.. ولوفائه للشرفاء

طويت صفحة في تاريخ فرنسا. كان جاك شيراك الذي خلف فرنسوا ميتران في الرئاسة في العام 1995 آخر كبار السياسيين، بل آخر الزعماء التاريخيين في فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان جاك شيراك آخر رئيس للجمهورية الفرنسية يستطيع قول كلمة لا في وجه الرئيس الأميركي، أي رئيس أميركي.
يودّع الرئيس جاك شيراك الرئاسة، لكنّه لا يبارح المجد، أقلّه من وجهة النظر العربية. هذه وجهة نظر العرب الحريصين على قضاياهم وعلى مستقبلهم والرافضين للمتاجرة بها لمصلحة هذا الطرف الإقليمي أو ذاك. كان هناك دائماً بعد عربي للسياسة الخارجية الفرنسية في عهد شيراك، أكان ذلك في منطقة الخليج أو في المشرق العربي أو في المغرب. لم يقدّم أي زعيم عالمي أو اوروبي للمنطقة ككلّ ما قدّمه شيراك الذي فهم الشرق الأوسط أكثر من غيره وبطريقة أعمق من غيره. لم يقدّم أحد غيره، اذا استثنينا فرنسوا ميتران، خدمات بهذا القدر للقضايا العربية بدءاً بالعراق وانتهاء بفلسطين. لم يحد جاك شيراك يوماً عن طريق الحق. لذلك استحقّ أن يكون قائداً عربياً حقيقياً بامتياز في وقت افتقد فيه العرب، بشكل عام، معنى القيادة ومعنى أن يكون هناك من يلعب دور الزعيم بعيداً عن اي نوع من المزايدات والشعارات الرخيصة.
كان جاك شيراك زعيماً عربياً حقيقياً عندما دافع عن لبنان وعمل من أجل المحافظة على الوطن الصغير بصفة كونه بلداً حرّاً، سيّداً، مستقلاً. فهم جاك شيراك في العمق كيف المحافظة على لبنان من أجل المحافظة على التوازنات القائمة في الشرق الأوسط. لم يتصوّر يوماً أن في الإمكان أن يكون هناك شرق أوسط من دون لبنان سيّد، حرّ، مستقل. لذلك، دعا في مرحلة معيّنة الى استمرار الوجود العسكري السوري في لبنان لفترة موقتة، ما دام ذلك يخدم الاستقرار اللبناني والإستقرار الإقليمي ويحمي المصالح السورية التي كان شديد الحرص عليها بعيداً عن السياسات المتهورة. وللسبب ذاته، دعا الى انهاء الوجود العسكري السوري في لبنان، والوجود العسكري الأيراني فيه، عبر ميليشيا "حزب الله"، عندما تبين أن الوقت حان لإنهاء هذين الوجودين وذلك خدمة للعرب عموماً واللبنانيين والسوريين خصوصاً والإستقرار في الشرق الأوسط قبل ايّ شيء آخر. ولأنّ جاك شيراك كان يعرف جيّداً ما هو الشرق الأوسط وما يفترض أن يكون عليه الشرق الأوسط، في حال كان مطلوباً البحث عن الإستقرار في المنطقة، لم يتردد في دعم الحق والعدالة في لبنان وفلسطين والعراق.
لم يتردد شيراك يوماً في دعم لبنان. كان لبنانياً حقيقياً وليس على شاكلة أولئك اللبنانيين الذين لا يحملون سوى الهوية اللبنانية، فيما ولاؤهم في مكان آخر، في المكان الذي جاء بهم الى المناصب التي يحتلّونها. هؤلاء يرفضون التخلي عن مواقعهم خشية أن يفتقدهم أولئك الذين طلبوا منهم شغلها. يا لها من مأساة لبنانية يتحوّل فيها المسؤول الى مجرد موظّف لدى جهة خارجية لا تتحكم بتصرفاته فحسب، بل بالمدة التي يتوجّب عليه تمضيتها في وظيفته أيضاً. ما هذا المسؤول اللبناني الذي عليه البقاء في موقعه من أجل أن ينفّذ التعليمات الآتية من الجهة التي اوصلته الى حيث وصل؟ كان جاك شيراك نقيض كلّ هذا المفهوم للمسؤولية والسلطة، لذلك كان عليه في نهاية المطاف الدخول في مواجهة مع نظام الوصاية على لبنان وذلك من أجل مستقبل أفضل لسوريا ولبنان في آن. ولأنّه إنسان حقيقي وصادق، إنسان بكلّ معنى الكلمة قبل أيّ شيء آخر، خاض المعركة مع نظام الوصاية الى النهاية مثيراً غضب أزلام النظام وحنقهم. هؤلاء الصغار الصغار الذين لا يستأهلون إيراد أسمائهم لدى الحديث عن كبير في حجم جاك شيراك.
لم يكن جاك شيراك، الرجل الحرّ جريئاً في لبنان فقط. كان جريئاً في فلسطين أيضاً. لم يتوقّف يوماً عن دعم قضية الشعب الفلسطيني وحقّه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. في بعض أسوأ الظروف التي مرّت فيها القضية الفلسطينية، زار شيراك إسرائيل وتحدّى الإحتلال في عقر داره. دخل في مواجهة مباشرة مع جنود الاحتلال الذين أحاطوا به وضيقوا عليه حركته لدى تفقده القدس الشرقية المحتلة في العام 1996، فما كان منه إلاّ أن صاح في وجههم مؤكّداً أنه ليس في حاجة الى حمايتهم. هدد بقطع زيارته و"العودة الى طائرته" إذا لم تتوقف المضايقات. بقي جاك شيراك وفيّاً للفلسطينيين وقضيتهم وأظهر مدى وفائه في فترة مرض الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني ياسر عرفات في العام 2005.
وقف جاك شيراك في وجه الإحتلال الأميركي للعراق. كان يعرف تماماً ما الذي سيتسبب به الإحتلال من كوارث للعراق والعراقيين والمنطقة. قبل ذلك، لم يتردد لحظة في الدفاع عن الكويت واستعادتها سيادتها وحريتها حين تطلّب الأمر ذلك، لكنّه كان يدرك جيداً مخاطر الإحتلال الأميركي للعراق على الإستقرار في المنطقة. وقد اظهرت الأيام كم كان على حق وستظهر عاجلاً أم آجلاً كم أنه على حقّ في لبنان وفلسطين. يكفي أنّه وقف في لبنان في وجه نظام الوصاية السوري وفي فلسطين في وجه الإحتلال الإسرائيلي...
بعيداً عن السياسة، يظلّ أمامنا جاك شيراك الإنسان، جاك شيراك صديق رفيق الحريري، جاك شيراك الوفاء، جاك شيراك الوفي للشرفاء ولأشرف اللبنانيين والعرب. تحيّة الى جاك شيراك، الرجل الرجل الذي سيفتقده العرب الصادقون في الأيام الآتية بصفة كونه صديقاً حقيقياً كان بين القلائل الذين عرفوا الشرق الأوسط وحاولوا وضعه على سكّة التقدم...

يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

8 آذار 2019 00:00