في مثل هذه الأيّام قبل أربع سنوات، شنّت الولايات المتّحدة حرباً على العراق بهدف اسقاط نظام صدام حسين العائلي ـ البعثي. وتوّجت الحملة في التاسع من نيسان 2003 بدخول القوّات الأميركية بغداد وفرار صدّام ومعاونيه واستسلام قوّاته. كان الغرض المعلن للحملة العسكرية الأميركية تحويل العراق إلى نموذج لدولة ديموقراطية متطورة تغيّر طبيعة الأنظمة في الدول القائمة في المنطقة. بل كان الهدف كما حدّده كولن باول، وزير الخارجية الأميركية وقتذاك، إعادة تشكيل الشرق الأوسط انطلاقاً من العراق. نجحت الحملة الأميركية في اسقاط النظام العراقي المتخلّف الذي كان سقط فعلاً قبل ذلك بثلاثة عشر عاماً عندما أقدم صدّام على مغامرته المجنونة صيف العام 1990 واحتلّ دولة عربية مسالمة هي الكويت. لم يفهم الديكتاتور العراقي الذي اعتقد أنّه بسمارك العرب، وصدّق ذلك، معنى تصدّي المجتمع الدولي لمغامرته الكويتية والنتائج التي ستترتب عاجلاً أم آجلاً على عمله المجنون، فاستمرّ في ارتكاب الأخطاء غير مدرك أن الخطأ لا يعالج بخطأ أكبر منه. لم يدرك ان معالجة الخطأ بالخطأ والمكابرة يعتبر الطريق الأقصر إلى الهلاك. لم يدرك خصوصاً أنّ السياسة ليست مقامرة وأنّ ثمة فارقاً كبيراً بين الفعلين وأن المقامر يمكن ان يربح مرّة أو مرّتين أو ثلاث مرّات أو أكثر، لكنّه لا يمكن إلاّ أن ينتهي خاسراً. بالنسبة إلى صدّام لم يكن هناك فارق بن السياسة والمقامرة. لذلك انتهى بالطريقة التي انتهى بها. لم تعكس نهايته البائسة كم كان فكره السياسي ضحلاً بمقدار ما كشفت مدى انحطاط الذين خلفوه الذين لم يستوعبوا أن عليهم أن يتعلّموا من تجارب الماضي القريب... أقلّه من أجل العراق والعراقيين.
بعد أربع سنوات من بدء العملية العسكرية الأميركية، يبدو المشهد العراقي مخيفاً لسببين على الأقلّ، الأوّل داخلي والآخر أميركي. يعود السبب الأوّل إلى أن الذين خلفوا صدّام حسين لم يتمكّنوا من أن يكونوا أفضل منه في أيّ شيء. مارسوا الانتقام بدل ممارسة العدالة ولم يظهروا في أيّ وقت أن في إمكانهم بناء مؤسسات لدولة ديموقراطية. على العكس من ذلك، زادوا من السلبيات التي كانت سائدة في عهد صدّام بل طوّروها ولم يبقوا ولو على ايجابية واحدة بدليل اختفاء الشعور ببعض الأمان الذي كان يحسّ به العراقي العادي في عهد صدّام. هل طبيعي أن يُعدم صدّام ثمّ أخوه غير الشقيق برزان التكريتي وعوّاد البندر وطه الجزراوي بالطريقة التي أعدموا بها والتي تنم عن رغبة في الانتقام لدى حزب مذهبي موال للنظام الايراني وجد نفسه في السلطة بفضل الأميركيين لا أكثر ولا أقلّ؟. العدالة تبني دولاً ومؤسسات وليس الانتقام!.
يرتكب الذين خلفوا صدّام كلّ ما ارتكبه من فظاعات في حق العراقيين مع فارق أن وحدة البلد صارت مهددة وأن العراق وسط حرب أهلية ارتدت طابعاً مذهبياً. انّها حرب تهدد المنطقة كلّها. هل هذا ما عناه كولن باول عندما تحدّث عن إعادة تشكيل الشرق الأوسط انطلاقاً من العراق؟.
أما السبب الأميركي الذي يجعل المشهد العراقي مخيفاً، فإنّه عائد إلى أن الولايات المتحدة باتت في حاجة إلى حرب أخرى لتبرير حربها على صدّام حسين ونظامه أو على الأصح من أجل ألاّ تخرج مهزومة من العراق.
ما يتبين يومياً بالملموس أن الحرب الأميركية على العراق انتهت بانتصار تاريخي لإيران غيّر كلّ الموازين في المنطقة بشكل جذري. لولا الانتصار الايراني في العراق الذي حطّم ما كان يعتبره الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الحدود القديمة التي تفصل بين حضارتين كبيرتين (الحضارة العربية والحضارة الفارسية)، لما كان في استطاعة النظام الايراني تحدي الأسرة الدولية.
يبدو الفشل الأميركي كبيراً في العراق، اللهم إلاّ اذا كان المطلوب تفتيت البلد تمهيداً لتقسيم جديد للمنطقة ولتوزيع مختلف لموازين القوى فيها. إن الفشل الأميركي في العراق أكبر بكثير من الفشل الفيتنامي. خرجت الولايات المتحدة من فيتنام في العام 1975، وما لبثت أن استجمعت قواها وانتصرت في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي. اذا انسحب الأميركيون من العراق وتركوه لإيران، سيكون الخليج كله بثرواته الهائلة تحت رحمة ايران. هل في استطاعة العالم الصناعي أن يواجه هذا الوضع؟.
بعد أربع سنوات على بدء الهجوم الأميركي في اتجاه بغداد، تكشّف عمق المأزق الأميركي. مأزق عميق إلى درجة تبدو معه حرب فيتنام، بالمعنى السياسي، أقرب إلى نزهة. الفارق الذي يعبّر أكثر من غيره عن عمق المأزق الأميركي أن الانسحاب من فيتنام كان خياراً ممكنا ومتاحاً. أما الانسحاب من العراق، فإنّه لا يبدو خياراً، أقلّه من دون ترتيبات إقليمية واضحة ومحدّدة تبدو إلى إشعار آخر مستحيلة.
إلى أين ستهرب أميركا من العراق؟، هل من خيار آخر غير التصعيد العسكري بعدما أدخلت نفسها في حلقة الحروب التي تجرّ إلى حروب أخرى؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.