ما يشهده لبنان ليس معركة مرتبطة بمستقبل البلد الصغير فقط. إنها معركة العرب أيضاً، بل معركة مستقبل المنطقة العربية. هل للعرب موقع في المنطقة أم لا؟ ستترتّب على معركة لبنان نتائج في غاية الخطورة والأهميّة على الصعيد العربي، ذلك أنّه أما يكون هناك لبنان العربي الحرّ السيّد المستقلّ، وأما تكون هناك "ساحة" للمحور الإيراني ـ السوري. سيكون لبنان "ساحة" لا علاقة لها بكلّ ما هو عربي بمقدار ما أنها امتداد لمحور همّه الأول إثارة الغرائز المذهبية في المنطقة عن طريق التحريض على الحكومة اللبنانية بصفة كونها حكومة سنّية في حين أنّها حكومة كلّ لبنان. حكومة كلّ لبنان من الناقورة الى النهر الكبير.
هناك هجمة يتعرّض لها لبنان حالياً. الهدف الذي يسعى إليه الذين يقفون وراء الهجمة في غاية الوضوح وهو يتمثّل في إلغاء البلد وألغاء اللبنانيين وتشريدهم عن طريق تعطيل الحياة السياسية والاقتصادية في البلد. الخطأ أن يستخف العرب بما يحصل في لبنان وأن يعتقدوا أن الموضوع لا يهمّهم من قريب أو بعيد. على العكس من ذلك، عليهم استيعاب أن ما يجري في لبنان من منطلق أنّ دولة عربية تتعرض لمحاولة تستهدف إلغاءها لمصلحة تحالف لا همّ له سوى شرذمة العالم العربي، أو ما بقي منه، بهدف الوصول في نهاية المطاف الى مفاوضات بين إيران وإسرائيل على اقتسام النفوذ في الشرق الأوسط مع طرف ثالث صاعد هو تركيا.
بالطبع ليس في الإمكان تجاهل تركيا في المعادلة الشرق أوسطية التي يأمل المحور الإيراني ـ السوري في التوصّل إليها بسبب الوزن الذي تمثّله على صعد عدّة، خصوصاً على الصعيد العسكري. ولذلك، كان النظام السوري في غاية التجاوب مع أنقرة عندما تقدّمت بطلبات معيّنة منذ ما قبل تولّي بشّار الأسد الرئاسة خلفاً لوالده. وكان التهديد باستخدام القوّة كافياً لطرد الزعيم الكردي عبدالله أوجلان من الأراضي السورية، تمهيداً لهبوطه في سجن تركي. كما كان كافياً أن تتابع تركيا ضغطها على النظام السوري، كي يزور بشّار الأسد أنقرة وينسى نهائياً شيئاً اسمه لواء الإسكندرون، أي ما كانت الكتب المدرسية السورية تسمّيه في الماضي "اللواء السليب".
لا شيء يحدث بالصدفة في لبنان. كان التمديد لرئيس الجمهورية إميل لحّود من أجل الاستمرار في إخضاع لبنان واللبنانيين. وكانت محاولة اغتيال مروان حماده رسالة واضحة من أجل ألاّ يكون هناك صوت معترض في لبنان. ولمّا لم يقتنع اللبنانيون بأنّ عليهم أن يصبحوا مدجّنين مثل المواطن السوري، جاء اغتيال رفيق الحريري من أجل تدمير مشروع إعادة الحياة الى لبنان، لبنان الحضاري المزدهر، لبنان العربي المتنوع الذي على تناقض مع المشروع الإسرائيلي العنصري والمتزمت. ولمّا ردّ اللبنانيون على اغتيال الحريري بانتفاضة الاستقلال، كان لا بدّ من إسكاتهم مجدداً، خصوصاً بعدما فشل إميل لحود في العبث ما فيه الكفاية بمسرح الجريمة وفتح الطريق المحاذية لفندق "سان جورج" أمام حركة السير من أجل إظهار أن الجريمة، جريمة اغتيال رفيق الحريري، مجرّد حدث عابر. كان لا بدّ من ارتكاب جرائم أخرى لتغطية جريمة العصر. لذلك قتلوا سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وحاولوا اغتيال ألياس المرّ وميّ شدياق.
استمرّ اللبنانيون في المقاومة حفاظاً على عروبة لبنان وتفادياً لسقوط بلدهم في يد المحور الإيراني ـ السوري الذي يريد مقاتلة إسرائيل حتى آخر لبناني وحتى آخر حجر في آخر قرية لبنانية. وكأنّ تهديم لبنان لا يصبّ في المصلحة الإسرائيلية. ولمّا فشلت حرب الصيف التي افتعلها "حزب الله" لتغطية كلّ الجرائم السابقة، تلك الحرب التي سمحت لإسرائيل بممارسة إرهاب الدولة في حق لبنان واللبنانيين، نقل الحزب الذي يشكّل رأس الحربة للمحور الإيراني ـ السوري المعركة الى الداخل. إنّه يحاول الآن إسقاط الحكومة التي حمته وحمت اللبنانيين، الحكومة التي تمثّل مع مجلس النواب الحصن الأخير للشرعية اللبنانية...
صمدت الحكومة اللبنانية، على الرغم من كلّ ما تعرّضت له من اعتداءات بما في ذلك جريمة اغتيال الوزير بيار أمين الجميّل التي تعتبر محاولة واضحة لخلق فتنة مسيحية ـ مسيحية عرف رجل شجاع اسمه الرئيس أمين الجميّل كيف يتفاداها. صمدت الحكومة على الرغم من الخسارة الكبيرة التي لحقت بها وبلبنان وأحبطت الهجوم الذي كان يستهدف السرايا والذي كانت تعدّ له جحافل "حزب الله" التي سيطرت على الوسط التجاري لبيروت من أجل قطع أرزاق اللبنانيين وتهجيرهم من وطنهم... بغطاء برتقالي لمهرّج محترف يتحلّى بخفة العقل ولكن تنقصه خفّة الدم!
خيار اللبنانيين أكثر من واضح. إنّه الصمود في وجه الغرائز المذهبية التي يحاول إثارتها أولئك الذين يسعون الى إسقاط الحكومة الوطنية. هذا الصمود البطولي للحكومة يحتاج الى أكثر بكثير من وساطات عربية. ثمة حاجة الى موقف عربي واضح من أحداث لبنان والجرائم التي ترتكب في حق البلد الذي يمثّل أحد خطوط الدفاع عن المنظومة العربية ككلّ. إذا سقط لبنان سيسقط آخرون. يفترض في المعركة الدائرة على أرض لبنان أن تهمّ كلّ العرب. إنها معركة الحؤول دون انتشار العدوى العراقية في المنطقة، عدوى الصراعات الطائفيّة والمذهبية التي تشجعّ عليها إسرائيل والتي يعتقد المحور الإيراني ـ السوري أنّه يستطيع الاستفادة منها لتقوية موقعه التفاوضي مع "الشيطان الأكبر" الأميركي و"الشيطان الأصغر" الإسرائيلي...
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.