طوال أربعة عقود من الاحتلال الاسرائيلي للضفة العربية وقطاع غزّة، لم يفعل الجيش الاسرائيلي سوى متابعة هدف واحد يتلخّص بالسعي الى افراغ الضفة من أهلها وتيئيسهم من أن هناك مستقبلاً لهم في أرضهم. وما ينطبق على الضفة كان ينطبق على غزة قبل أن يقرر الاحتلال منذ فترة طويلة تعود الى الثمانينات من القرن الماضي أن عليه إيجاد طريقة للتخلّص من عبء اسمه القطاع. وكانت النتيجة أن آرييل شارون الذي يغط في غيبوبة عميقة تجرّأ على تنفيذ الانسحاب الاحادي الجانب تنفيذاً لسياسة تقوم على محورين. الاوّل أن احتلال غزة من خارج اسهل بكثير واقلّ كلفة من البقاء فيها. ووجدت اسرائيل، خصوصاً بعد خطف احد جنودها في أواخر حزيران الماضي، أنّها باتت قادرة على عمل ما تشاء في غزّة فيما العالم يتفرّج، بل يشجعها على متابعة ممارساتها الارهابية وكأنّ غزة حقل تجارب للجيش الاسرائيلي والاسلحة التي في تصرّفه. والمؤسف أن تصرفات فلسطينية تصدر عن اطراف عدّة على راسها "حماس" تشجّع اسرائيل على القيام بما تقوم به عن طريق استمرار فوضى السلاح من جهة واطلاق الصواريخ المضحكة ـ المبكية من جهة اخرى.
أمّا المحور الآخر الذي تقوم عليه السياسة الاسرائيلية فهو يتلخّص بأنّ الانسحاب من غزّة فرصة لتكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية والمنطقة المحيطة بها. ولعلّ اخطر ما نشهده اليوم استمرار حكومة أيهود أولمرت، التي التزمت سياسة شارون، في بناء "الجدار الامني" الذي يقتطع اجزاء من الضفة ويضمّها الى اسرائيل في ظل صمت عالمي مريب. لم يعد هناك من يتحدّث عن الجدار العنصري الذي يخلق أمراً واقعاً جديداً تسعى اسرائيل الى فرضه على العالم وعلى العرب والفلسطينيين الذين يعانون حالياً من حصار ظالم يعطي فكرة عن مدى تراجع قضيتهم في سلّم الاولويات الاقليمية والدولية.
هناك احتلال للضفة الغربية مستمر منذ العام 1967. لم تفعل اسرائيل طوال تلك الفترة سوى العمل على تهويد الارض وأبعاد الشعب عن أرضه وتشريد من لم يتشرّد من أبنائه. ولا شك أن الفلسطينيين ارتكبوا منذ احتلال الضفة وغزّة كمّية ضخمة من الاخطاء، اكان ذلك في الاردن أو في لبنان أو حتى عندما سعوا الى الحصول على قرار من قمّة الرباط التي انعقدت في العام 1974 يعتبر منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. لم يفهم الفلسطينيون وعلى رأسهم الشهيد "أبو عمّار" الذي كان رمز القضيّة أن حجتهم القانونية كانت اقوى على الصعيد الدولي قبل قرار قمة الرباط، نظراً الى أن اسرائيل احتلت الضفة والقدس الشرقية من الاردن. والى اشعار آخر، يظلّ الاردن دولة كاملة العضوية في الامم المتحدة، دولة قادرة على التعاطي بصورة افضل مع القرار الرقم 242 من منطمة التحرير، اقلّه من زاوية أنه الطرف الذي كان يتمتع بالسيادة على الارض قبل الاحتلال. المؤسف أن منظمة التحرير لم تتعلّم شيئاً من تجربة الاردن، هذا البلد الذي وجد نفسه مجبراً على خوض حرب خاسرة سلفاً بسبب الجهل العربي وشعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة الذي اختصر في مرحلة معيّنة كلّ أنواع المزايدات العربية واستخدم في تغطية كلّ الاخطاء التي ارتكبت في ظلّ تلك المزايدات في حق الشعوب العربية وقضاياها.
هل من يدرك الآن أنّه لو كان اتفاق أوسلو بالسوء الذي يتحدّث عنه منوشهر متّكي وزير الخارجية الايراني من دمشق، لما كان آرييل شارون أمضى السنوات الاخيرة من عمره في محاربة الاتفاق من اجل اسقاطه. وقد حقق نجاحاً عظيماً في هذا المجال ما مكّنه من دخول الغيبوبة مطمئنّاً الى أنه قضى على كلّ أمل في السلام.
ما يحصل في المنطقة ليس أمراً عادياً. يبدو الشرق الاوسط مقبلاً على تطورات كبيرة. وما يفترض في الجانب الفلسطيني التنبّه له أن دخول افيغدور ليبرمان، العنصري بامتياز، حكومة أولمرت من دون اعتراض حزب العمل يدلّ على أن هناك حكومة وحدة وطنية في اسرائيل. ومثل هذه الحكومات لا تشكّل في الدولة اليهودية الاّ عندما تكون هناك احداث خطيرة متوقّعة. ما العمل في مثل هذه الحال فلسطينياً؟ ربما كانت الخطوة الاولى التي يفترض الاقدام عليها الاتفاق على الانتهاء من فوضى السلاح في غزّة أوّلاً والبحث الجدّي في برنامج سياسي واقعي تعتمده الحكومة الفلسطينية، أيّ حكومة فلسطينية حتّى لو كانت الحكومة الحالية. من الافضل للفلسطينيين أن يكونوا على تماس مع العالم، بدل أن يكونوا تحت الحصار، عندما يكون الشرق الاوسط في حال مخاض. في غياب ذلك، يخشى مرّة اخرى أن يدفع الفلسطينيون مع قضيّتهم ثمن ما تشهده المنطقة حالياً من تطورات، اقلّ ما يمكن قوله عنها أنّها ذات طابع مصيري. إنها تطورات في حجم تلك التي شهدها الشرق الاوسط مطلع العشرينات من القرن الماضي اثر انهيار الدولة العثمانية. من يشك في هذا الكلام، يمكن احالته على ما يدور في العراق حيث فُكّكت دولة كانت عربية الى ما قبل سنوات قليلة ويعاد حالياً تركيبها على اسس وقواعد جديدة.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.