18 آذار 2020 | 19:17

منوعات

في ذكرى ميلادها: يا زمن الوفا، أهلك وين راحوا!؟ نجاح سلام صدح صوتها من بيروت إلى سماء العروبة... رحلة مصر(٢)

زياد سامي عيتناني*

كان هناك تبادل ثقافي وفني بين إذاعتي مصر ولبنان، ومن حسن حظنجاح سلام أن والدها سيذهب إلى مصر في سنة١٩٤٨ بآعتباره موسيقي وعازف عود، فقرر أن يصطحبها معه في رحلته.

وعندما علمت نجاح بقرار الوالد لم تنم في تلك الليلة، إذ كانت تفكر بأنها سترى في الشارع أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وكل العمالقة وستلتقيهم وتتحدث معهم، فمصر حلم يراود كل فنان، وبالتالي فإن كل من يطمح لدخول المجال الفني، لا بد أن تكون مصر هي منصة إنطلاقته.

•اللقاء مع أم كلثوم:

وحين ذهبت إلى مصر توسلت إلى والدها أن يعرفها إلى أم كلثوم. كان عبده صالح عازف القانون، صديقاً حميماً لوالدها، حدّد لهما موعداً وذهبا لمقابلة الست في منزلها. بعد أن إستقبلتهما قالت لوالدها: "أنا أتذكرك يا أستاذ، أنت الذي ألقيت قصيدة قدمتني بها في الحفل في لبنان".ثم قدم إبنته إليها وقال إنها معجبة بكِ جداً، سألته أم كلثوم: "صوتها كويس"؟قال: "يعني"(!) فعقبت نجاح بعفوية وبراءة وسرعة: "والله صوتي حلو بس هو مش عاوز يقول".

بالطبع يومها لم تصدق نجاح جلوسها أمام أم كلثوم، فبعد أن نالت شهادة عبد الوهاب في بيروت، كانت متشوقة للإستماع إلى رأي أم كلثوم فيها. فسألتها: "إيه الأغاني اللي تحبي تغنيها"؟ أجابتها: "أحب غناء كل الأغاني بتاعتِك". فغنت أمامها "أهل الهوى ياليل فاتوا مضاجعهم" من ألحان زكريا أحمد، و"أراك عصي الدمع"، وفي كل مرة كانت أم كلثوم تردد: "الله الله ياسيدي، الله الله قولي"، ثم إلتفتَت إلى والدها وقالت له عبارة لا تنساها نجاح: "تعرف يا سي محيي، نجاح لها رأي الغُنا. هي تغني أغنياتي لكنها ما بتقلدنيش، بتغني بطريقتها، وده شيء جيد في الفنان".

المهم بعد هذا اللقاء "التاريخي" - "الحلم" بالنسبة لها، أنها حصلت على الشهادة الثانية الأهم في حياتها عبد الوهاب وأم كلثوم.

•اللقاء مع محمد سلمان قبل الزواج:

عند العودة إلى الفندق بعد رؤية أم كلثوم، إلتقت هناك محمد سلمان، الذي كان يعلمها اللغة الفرنسية قرابة سنة ١٩٤١، ذلك أنها تأسست في المعارف ولم تدرس الفرنسية، وعندما حان الوقت دخولها مدرسة الراهبات كان لا بد من تعلم اللغة الأساسية فيها. والدها كان على معرفة وصداقة مع محمد سلمان إذ عرف موهبته وسمع صوته في ذلك الوقت وساعده على دخول الإذاعة، فطلب منه تعليمها الفرنسية في البيت، رغم أنها تكره اللغات عدا العربية، التي تفضلها على غيرها. لذلك وفي كل مرة كان يأتي سلمان ليعلمها الفرنسية كانت تضع له الدبابيس على الكراسي لكي لا تدرس، وكانت تتوسل والدها أن يعفيها من تعلم الفرنسية، قائلة له إنها حين تكبر سوف تتعلمها. وبالفعل هذا ما حدث إذ تعلمتها حين كبرت بالممارسة.

وحين رآها محمد سلمان حملها وهو يقول: "تلميذتي يا حبيبتي"، وكان عمرها في ذلك الوقت قرابة 14 عاماً، لكنه لم ينتبه إلى تلميذته التي كبرت إلا فيما بعد...

•التعرف على كبار الفنانين:

وهكذا بدأت نجاح مرحلة التعرف إلى الكبار الفنانين، مستفيدة من أن الجميع كان يحب والدها ويحترمه كشخص وفنان، إضافة إلى أنه كان يكرمهم في لبنان ويستضيفهم في الإذاعة، حينما كانوا يزورون بيروت.

فرأت خلال زيارتها الأولى امصر كل من رياض السنباطي وأنور وجدي الذي كان صديقاً لوالدها منذ أيام المدرسة ويعقوب طاطيوس (عازف الكمنجة الشهير)، كذلك تعرفت على فريد الأطرش وشقيقته أسمهان، وعلى نجيب الريحاني، يوسف وهبي الذي كان يمثل فيلم "رجل لا ينام"، فريد شوقي، فاتن حمامة، راقية ابراهيم، كاميليا التي كانت لاتزال جديدة وغيرهم كثيرين. وفي نفس الوقت بدأ الوسط الفني في مصر يعرفها. وهذا بحد ذاته إنجاز كبير، لأن القاهرة هي عاصمة الفن العربي، ووجهة كل الطامحين للإنطلاق والسير قدماً نحو طريق الشهرة، التي كانت في حينها تتطلب معايير ومقومات فنية في غاية الصعوبة، للتمكن من مجاراة كبار وعمالقة الفن المصري في ذالك الزمن الذهبي.

•الرسوب في تصوير الفلم الأول:

ووصل خبر وجودها في مصر إلى عبد الوهاب وذهبت إلى بيته وفرح بقدومها مع والدها وعرض عليهما مشروع فيلم عنوانه "العيش والملح".

وهذا الفلم سبب لنجاح "عقدة" من السينما في البداية، وذلك بسبب خجلها وتربيتها المخافظة. والقصة أن شركة "نحاس فيلم" كانت تبحث عن فتاة تقوم بدور البطولة، فأخبرها عبد الوهاب عن نجاح وتعهد بتلحين أغاني الفيلم، فقبلت إدارة الشركة دون تردد بآعتبار أن عبد الوهاب من يرشحها.

وفي يوم الإختبار توجهت إلى إستديو "ناصيبيان"، وتمّ عمل الماكياج اللازم للبدئ بتصوير المشاهد التجريبية، وأول مشهد سيصور هو أنها فتاة بنت بلد تحمل سلة مليئة بالبيض وماشية، فيصدمها سعد (عبد الوهاب) بدراجته، ومن غضبها، عليها أن تصرخ بلهجة بنت البلد المصرية، حينما يقول لها: "لا مؤاخذة يا بيضة"، فترد عليه غاضبة: "بيضة لما تنطش في حبابي عنيك". بعد أن قالتها تعجب المخرج على أساس أنها فتاة صغيرة وآتية من لبنان قبل أيام فقط، ففرح وتأمل خيراً.

لكن في اليوم الثاني كان المشهد هو الطامة الكبرى، فالموقف غرامي يتطلب منها أن تقول: "أحبك". وفي كل مرة يقول لها سعد: "أحبكِ"، كانت تخجل وتعود إلى الوراء، دون أن تتمكن من تمثيل المشهد!

إلا أن مخرج الفلم المخرج حسين فوزي تفهّم المسألة، وعرف أن التربية وجو البيت المحافظ، كانا السبب في خجلها، فنصح والدها أن يعطيها فترة قبل أن تبدأ في السينما، تكتسب خلالها الخبرة في التعاطي مع المسرح والجمهور والمعجبين وغير ذلك، ومن ثم تأتي مرحلة التمثيل.

وبذلك تكون قد رسبت في الإمتحان التمثيلي الأول، لتنصرف بعدها للغناء لكي تنضج شخصيتها الفنية وتكتسب الخبرة التمثيلية.

•العودة إلى بيروت

عادت بعد ذلك إلى بيروت ينتابها شعور من الزعل والإحباط بسبب هذا الدور الذي حرمها إنطلاقتها السينمائية الأولى، إلا أن والدتها إبتسمت في وجهها وهي تتلمس مشاعرها الحزينة، قائلة لها: "سيأتي يوم يقبّل المخرج يديك لتعملي معه".

إذن، بالرغم من فشل تجربة الدخول في عالم السينما، إلا أن نجاح في تلك الفترة القصيرة رأت الفنانين الذين كانت تحلم بلقائهم، وتعلمت أن الإنسان لا تكفيه فطرته وموهبته، بل عليه أن يتعلم ويسعى حتى يستطيع إستغلال الفرصة على أحسن وجه، كما إقتنعت أن هدفها الأساسي ليس السينما أو إستديوهات التصوير والأضواء والعمالقة، بل أن إهتمامها يجب أن ينصب على المسرح والغناء على خشبته وسماع تصفيق الجمهور وعبارات الطرب والإستحسان والتشجيع...

-يتبع: إنطلاقتها الغنائية.

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.








يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.

18 آذار 2020 19:17