لم يعد سرّاً ان الوضع في العراق يسير من سيّئ إلى أسوأ. كان هذا الشهر كارثة على القوّات الاميركية، كما كان في الوقت ذاته كارثة على العراقيين. ما يمكن قوله بكلّ بساطة هو أن العراق كان بلداً عربياً موحّداً وصار بلداً من دون هوية مرشّحاً للتقسيم. قضى الاميركيّون على نظام صدّام حسين العائلي ـ البعثي، لكنّهم لم يعدّوا لمرحلة ما بعد صدّام. لا يزال السؤال الغامض نفسه مطروحاً: ما الذي دفع الولايات المتّحدة إلى اجتياح العراق وإسقاط النظام في وقت لا وجود لخطة واضحة لمرحلة ما بعد الاجتياح؟ هل الهدف النهائي تقسيم المنطقة؟ هل الهدف إثارة النعرات الطائفيّة والمذهبية في هذه المرحلة بالذات والانطلاق من العراق في اتجاه إعادة رسم خريطة الشرق الاوسط؟
كذلك ليس سرّاً أن وزير الخارجية الاميركية كولن باول قال في مرحلة الاعداد للإجتياح أن أميركا تنوي إعادة تشكيل المنطقة. هكذا، بكلّ بساطة وصراحة، كشف باول الذي كان وقتذاك وزيراً للخارجية، الهدف الاميركي من احتلال العراق من دون توضيح ما هو المطلوب في النهاية. هل المطلوب إعادة النظر في خريطة الشرق الاوسط التي رُسمت بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية؟ أم المطلوب إثارة نزاعات تؤدي إلى حروب لا نهاية لها داخل العراق نفسه أوّلاً وفي محيطه في مرحلة لاحقة؟
كان أي طفل وُلد في الشرق الاوسط يدرك منذ اللحظة التي قرّرت فيها إدارة بوش الابن اجتياح العراق أن إيران ستخرج منتصرة وأنها ستجيّر عملية إسقاط النظام العراقي لمصلحتها. لم يكن هناك أيّ خلاف بين شخصين يعرفان القليل عن الشرق الاوسط على أن الحرب الاميركية على العراق تصبّ في خدمة النظام الايراني ولا أحد غير النظام الايراني. ومن هذا المنطلق، ليس مستغرباً اليوم قبل غد أن تكون إيران في موقع يمكّنها من التفاوض مع الاميركيين من موقع قوة في شأن كلّ ما له علاقة بالعراق... وببرنامجها النووي!
لا يعني هذا الكلام أن نظام صدّام كان يجب أن يستمرّ. لم يكن هذا النظام على علاقة بما يدور في المنطقة والعالم. أكثر من ذلك، قضى صدّام على كل ما هو حضاري في العراق وعمل على تفكيك النسيج الاجتماعي للعراق. و يدفع العراقيون حالياً ثمن ما أقدم عليه صدّام الذي أقام نظاماً قمعيّا لا يؤمن سوى بالعنف ناقلاً البلد من حرب إلى أخرى منذ اليوم الاوّل الذي صار فيه رئيساً. وقد أدرك الايرانيون نقاط الضعف لدى صدّام وأستغلّوها بطريقة أوصلتهم إلى أن يكونوا بفضل الاميركيين الحكام الحقيقيين للعراق في أيّامنا هذه. تبيّن أن ليس أغبى من صدّام سوى إدارة بوش الابن التي إجتاحت البلد لتسلّمه للنظام الايراني.
هل تعترف واشنطن بهذا الواقع، أم تمارس المكابرة من دون أن تسأل منذ متى كانت المكابرة سياسة؟ الواقع أن المكابرة لم تصلح يوماً لأن تكون سياسة. ولذلك بدأت ترتفع أصوات من داخل أميركا تدعو إلى الخروج من المأزق العراقي عن طريق الاستعانة بإيران وحتّى بسوريا أيضا. وبكلام أوضح، سيكون على الادارة الاميركية الاستعانة بإيران وإلى حدّ ما بسوريا للخروج من المأزق وتسليم العراق تالياً إلى هذين النظامين. هل في إستطاعة أميركا الاعتراف بهزيمتها العراقية بهذه السهولة؟
يصعب على إدارة بوش الابن الاعتراف بأنّها هزمت في العراق. خصوصاً أنّها هزمت أمام المحور الايراني ـ السوري الذي يشجع الميليشيات الطائفيّة التابعة للأحزاب الشيعية الكبيرة من جهة والارهاب الذي تمارسه مجموعات سنّية متطرّفة تنفّذ عمليات إنتحارية من جهة أخرى. لهذا السبب وليس لغيره، لن تجد الادارة أمامها سوى متابعة سياسة المكابرة غير مدركة للنتائج التي ستترتّب عليها في المدى البعيد. مثل هذه السياسة التي بنيت على الجهل التام للمعطيات العراقية، بما في ذلك النتائج التي يمكن أن تترتّب على قرار مثل قرار حلّ الجيش العراقي، لن تقود سوى إلى تقسيم العراق. من قال إن الهدف النهائي للذين دفعوا في إتجاه إجتياح العراق ليس تقسيم البلد تمهيداً لتقسيم غيره؟
ربما سيتوجب في المستقبل التفريق بين الذين اتخّذوا في واشنطن القرار الذي قضى بإجتياح العراق من جهة وبين الذين دفعوا إلى اتخاذ القرار من خلف الكواليس من جهة أخرى. هؤلاء يعرفون الهدف الحقيقي من عملية احتلال العراق ومن الاصرار على تسليم الحكم لأحزاب طائفية لديها ميليشيات خاصة بها تابعة مباشرة لإيران. في النهاية هل النظام الايراني الحالي عدوّ حقيقي للولايات المتّحدة أم أنّه حليف لها كما الحال في العراق... في حين أنه "عدو" لـ"الشيطان الاكبر" حيث يروق له ذلك، أي في لبنان مثلاً حيث صبّت الحرب الاخيرة التي تسبّب بها في خدمة إسرائيل ولا أحد غير إسرائيل. من قال إن إسرائيل ليست المستفيد الحقيقي من تقسيم العراق الذي يبدو أقرب إلى الواقع والحقيقة مع مرور الايّام...ثمة حقائق كثيرة ستكشفها الايّام الآتية. على رأس هذه الحقائق أن الحلفاء الحقيقيين والاوفياء لأميركا وإسرائيل هم الذين يطلقون الشعارات الاكثر تطرفاً ضدّهما!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.