لم تكشف مجزرة قانا الثانية التي ذهب ضحيتها عشرات المدنيين اللبنانيين الأبرياء، بينهم عدد كبير من الأطفال، أن لا حدود لوحشية اسرائيل ولارهاب الدولة الذي تمارسه فحسب، لكنّها كشفت أيضاً أنّه ارهاب مدروس يوظّف في خدمة عملية واضحة المعالم تستهدف تدمير لبنان والقضاء على أيّ أمل في أن تقوم له قيامة. لو لم يكن الأمر كذلك، لما كان ذلك الاصرار على تدمير أهداف مدنية تمثّل في الواقع البنية التحتية اللبنانية التي أعيد بناء معظمها بين العامين 1992 و1998.
في تلك الفترة، كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري يمتلك هامشاً واسعاً، إلى حدّ ما، سمح له بحرية التحرك وتنفيذ الجزء الأكبر من مشروع الأنماء والأعمار على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي اعترضته. على رأس هذه الصعوبات كان إعداد العماد اميل لحّود ليكون رئيساً للجمهورية تمهيداً لأستخدامه سدّاً في وجه عملية نهوض لبنان.
لقد اتقن اميل لحود هذا الدور تمهيداً للتخلص من رفيق الحريري. وها هو اليوم يتابع المهمّة التي نذر نفسه من أجلها، وهي مهمّة اطلاق الشعارات الفارغة التي لا هدف لها سوى الاساءة إلى لبنان وعرقلة الجهود التي يبذلها وطنيون حقيقيون من أجل الخروج من المأزق الراهن الذي وُضع فيه لبنان. لو لم يكن الأمر كذلك، لما تحدّث رئيس الجمهورية عن انتصارات وهمية تحققت منذ بدء العدوان الأسرائيلي، وهي انتصارات من نوع تدمير جزء من البنية التحتية اللبنانية ونزوح نحو ثمانمئة ألف لبناني من منازلهم وقراهم وأضطرار بعضهم للجوء الى مخيّمات فلسطينية.
ألا يستحي العماد لحوّد من الحديث عن انتصارات عندما يصبح اللبناني لاجئاً عند لاجئ؟ الأكيد أن هذا الكلام لا يعني في أي شكل المس بالاخوة الفلسطينيين في المخيّمات الذي فتحوا مشكورين أكواخهم ومدارسهم التابعة لوكالة الغوث (الأونروا) للمواطنين اللبنانيين، لكن الأمر الذي لا يمكن قبوله الحديث عن انتصارات بعد الكارثة التي حلّت بلبنان واللبنانيين الذين كانوا يعيشون أعزّاء في بيوتهم إلى ما قبل أيام قليلة. هل يعي رئيس الجمهورية ما الذي حلّ ببنت جبيل التي أزالها العدو الأسرائيلي من الوجود؟ هل يعي معنى إزالة بنت جبيل من الوجود وانعكاسات ذلك على الآلاف من أهلها وأهل بلدات وقرى جنوبية أخرى في الأيام القريبة عندما سيحاول هؤلاء العودة إلى بيوتهم؟
ثمة حاجة في هذه الأيام العصيبة إلى محاولة فهم ما يدور في لبنان وما يدور حول لبنان وما يدور في العالم. ثمة حاجة إلى فهم معنى أن يعطي العالم مهلة جديدة للوحش الاسرائيلي كي يستمر في عمليته العسكرية وكأنّ المطلوب ايصال رسالةالى كل من يعنيه الأمر أنّ على لبنان استيعاب أن لا عودة إلى الوضع الذي كان سائداً على أراضيه قبل الثاني عشر من تمّوز ـ يوليو الماضي. هذا هو الواقع الذي لا يمكن الهرب منه والذي يبدو أن رئيس مجلس الوزراء السيد فؤاد السنيورة استوعب مخاطره وما يترتّب عليه من مسؤوليات منذ اليوم الأوّل للعدوان. ولذلك، سعى إلى التعاطي مع العالم من منطلق رجل الدولة الذي يسعى إلى تجنيب بلده مزيداً من الويلات من دون التخلّي في أي لحظة عن المبادئ الوطنية التي آمن بها كلّ حياته.
ما يفترض في "حزب الله" وغير "حزب الله" فهمه أن الكلام الصادر عن رئيس الجمهورية يعتبر الطريق الأقصر لمزيد من الخراب والبؤس والمآسي. انه كلام صادر عن شخص لا يزال يسعى إلى الانتقام من رفيق الحريري ومن مشروع إعادة الحياة إلى لبنان وإلى إخراجه من وضع "الساحة" وكأنّه لم يشف غليله وغليل أسياده في دمشق بعد. كيف يمكن لرئيس للجمهورية أن يقبل بأن يظلّ بلده مجرّد "ساحة" في مقابل أن تمدّد ولايته ثلاث سنوات؟ ماذا يمكن أن ننتظر من هذا النوع من الرجال الذين يفتخرون بأن الأمن كان مضبوطاً في عهدهم لكنّ لم يرفّ لهم جفن بعد اغتيال القضاة الأربعة في صيدا؟
في النهاية، بعيداً عن العنتريات والبهورات والكلام الفارغ، على اللبنانيين، جميع اللبنانيين، العودة إلى أرض الواقع والاقتناع بأن لبنان لم يحقق أيّ انتصار على إسرائيل. ما تحقق منذ عملية خطف الجنديين أنّ اسرائيل استكملت مشروع تخريب لبنان وتدميره، وهو المشروع الذي بدأ تنفيذه بأياد عربية ولبنانية هي تلك التي تقف وراء اغتيال رفيق الحريري.
الكلّ متآمر على لبنان. هذا ما يفترض أن يفهمه اللبنانيون الذين لديهم فرصة للخروج من النفق الذي أدخلوا فيه. تتمثّل هذه الفرصة في النقاط التي قدّمها في مؤتمر روما الرئيس السنيورة. تظلّ هذه النقاط إلى اشعار آخر اللعبة الوحيدة في المدينة والمخرج الوحيد من النفق. ومن هذا المنطلق، ثمة حاجة إلى أصوات من كلّ الطوائف والمناطق تقف في وجه الذين يتحدثون عن انتصارات تمثّل في الواقع انتصاراً على لبنان. منذ متى الانتصار على لبنان بديل من الانتصار على أسرائيل؟ هل السعي إلى أحراق بيت الأمم المتحدة في بيروت وتحطيمه انتصار للبنان أم انتصار لاسرائيل؟
تلك هي العقلية التي على اللبنانيين مواجهتها. إنّها عقلية خطرة على لبنان أكثر بكثير مما هي خطرة على إسرائيل.. حتى لا نقول إنّها في خدمة إسرائيل، على غرار الكلام الصادر عن رئيس للجمهورية يرفض الاعتراف بأنّه مرفوض لبنانياً قبل أنّ يكون مرفوضاً عربياً ودولياً.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.