ثمة مؤتمرات يمكن التعلّم منها والاستفادة مما تقدّمه على صعيد المساعدة في رؤية ما قد يحدث مستقبلاً. من بين هذه المؤتمرات، ذلك الذي انعقد في البتراء في الأردن، المدينة التاريخية التي لا حدود لجمالها وعراقتها. إنها باختصار موقع لا مثيل له في العالم، يُفترض، من دون مبالغة، أن يُزادَ الى عجائب الدنيا السبع. وبغض النظر عن أهمية البتراء وفرادتها، لا يمكن إلاّ الإشارة الى الجهد الأردني الذي قام به الملك عبدالله الثاني والمتمثل بالإتيان بنحو خمسة وعشرين من الفائزين بجائزة نوبل الى هذا المكان بغية الاستفادة من تجاربهم وخبراتهم في عملية طويلة وشاقة هدفها السعي الى منطقة أفضل وعالم أفضل.
والمعني بالعالم الأفضل ليس السعي الى السلام في المنطقة فحسب، بل العمل أيضاً من أجل تحسين شروط العيش في الشرق الوسط، أكان ذلك على مستوى البيئة أو على مستوى التعليم... أو أخيراً على مستوى البحث في المشاكل التي يمكن أن تعترض كلّ المقيمين في دول المنطقة . الأهم من ذلك كلّه أن الأردن عمل على تنظيم المؤتمر للمرة الثانية بغية التأكيد أنّ للعرب مصلحة في السلام وأنّهم ليسوا عقبة في طريقه. وكان العرض الذي قدّمه رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس (أبو مازن) في البتراء دليلاً على أن العرب راغبون في السلام وأنّ انتخابات المجلس التشريعي التي شهدتها الضفة الغربية وغزة في بداية السنة الحالية يجب الآّ تكون عائقا في طريق السلام.
كان أداء "أبو مازن" في مؤتمر البتراء أكثر من جيّد على الرغم من الانتقادات التي وجهها اليه عدد لا بأس به من العرب بين الحضور كان همّهم الأوّل تحميل إسرائيل مسؤولية تعطيل عملية السلام. نعم إنّ اسرائيل تعتبر الطرف الأوّل المسؤول عن تعطيل عملية السلام، ذلك أنّها السلطة المحتلة التي تسعى الى تكريس الأمر الواقع، أي الاحتلال. ولكن ماذا عن مسؤولية العرب والفلسطينيين؟ إنّ الشجاعة تكمن في النهاية في مواجهة الحقيقة وليس الهرب منها...
امتلك رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ما يكفي من الشجاعة للإشارة الى نقطة الخلاف الرئيسية بين الرئاسة الفلسطينية والحكومة الفلسطينية مشيراً الى أن المشكلة في أنّ الحكومة الفلسطينية التي شكّلتها "حماس" بعد الانتخابات الأخيرة تعتبر أنّ من حقها تحديد السياسة الفلسطينية، في حين أن النظام الأساسي للسلطة الوطنية والقانون المعتمد يؤكّدان أن السياسة الفلسطينية يحددها رئيس السلطة الوطنية وأنّ مهمة الحكومة تقضي بـ"معاونة" الرئيس في تنفيذ السياسة التي يعتمدها وليس صياغة سياسة خاصة بها.
للمرّة الأولى، هناك من يقول أن السبب وراء الخلاف بين الحكومة الفلسطينية والرئاسة عائد الى عدم قدرة حكومة "حماس" على فهم السبب الذي جاءت من أجله. لم تأت هذه الحكومة لتغيير السياسة المعتمدة، بل جاءت لمساعدة الرئيس المنتخب من الشعب مباشرة بموجب برنامج في غاية الوضوح. الخلاف سياسي أوّلاً وأخيراً وما حاول "أبومازن" قوله في مؤتمر البتراء أن هناك طرفاً فلسطينياً على استعداد للدخول في عملية السلام في حال كانت إسرائيل مستعدّة للسلام.
يرتدي الكلام الذي صدر عن رئيس السلطة الوطنية أهميّة خاصة نظراً الى أنّه جاء ردّاً على أسئلة وجّهها اليه إيلي فيسيل وهو يهودي حائز على جائزة نوبل في الآداب يمتلك احتراماً كبيراً داخل إسرائيل. لم يخطئ "أبو مازن" في اي لحظة، حتى عندما أراد فيسيل استفزازه، بل حافظ على رباطة جأشه موجّهاً رسالة سلام الى الإسرائيليين عبر أديب يهودي معترف به عالمياً مدركاً أن المطلوب إفشال الاستراتيجية الإسرائيلية القائلة أنه لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. ما فعله رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بدعم أردني واضح عشية لقاء في البتراء مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، خطوة في الاتجاه الصحيح. حاول القول أن اللقاء مع أولمرت يمكن أن يمهّد للقاءات أخرى وأنه ليس صحيحاً أنّه لا يوجد طرف فلسطيني يمكن التفاوض معه. وبكلام أوضح، سعى "أبومازن" بدعم أردني واضح الى القول أن الكرة باتت في ملعب إسرائيل.
من الصعب الحديث منذ الآن عن أنّ الرئاسة الفلسطينية ستنجح في إفشال المشروع الإسرائيلي الهادف الى رسم حدود الدولة اليهودية من جانب واحد بحلول السنة 2010، لكن الأكيد أن "أبو مازن" حدّد هدفه. يُختصر هذا الهدف بالعمل على إسقاط المشروع الإسرائيلي القائل أن "حماس" تمثل الفلسطينيين وأن حركة ترفض حتى الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية لا يمكن التفاوض معها. قد ينجح رئيس السلطة الوطنية في مسعاه، كما قد يفشل، لكنّ ما يمكن قوله أنّه قام بواجبه في التصدي لإسرائيل ومشروعها الخطير. والأكيد أنّ ذلك ما كان ممكناً لولا وجود طرف عربي ممثل بالأردن يؤمن له قاعدة لشن هجوم سلمي على إسرائيل. إنه الهجوم الوحيد الذي يمكن أن يصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني. أما الباقي كلام لا فائدة منه سوى استخدام الشعب الفلسطيني مرّة أخرى وقوداً في معارك ذات طابع إقليمي لا علاقة له بها. من مثل هذا النوع من المعارك يحاول الرئيس الفلسطيني إخراج الفلسطينيين!
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.