لا فائدة من زيارة تقوم بها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مع وزير الخارجية البريطاني جاك سترو إلى بغداد لإقناع الائتلاف الشيعي بالتخلي عن تمسكه بأن يكون الدكتور ابراهيم الجعفري رئيساً للوزراء مجدداً، ما هو أهم بكثير من إبعاد الجعفري عن رئاسة الوزارة البحث في كيفية التخلص من الميليشيات التابعة لأحزاب معينة على رأسها "حزب الدعوة الاسلامية" الذي يتزعمه الجعفري نفسه، كيف يمكن أن يكون سياسي عراقي رئيساً للوزراء، أي في الموقع الأهم في الدولة استناداً إلى الدستور الجديد وأن يكون في الوقت ذاته زعيماً لاحدى الميليشيات؟.
بغض النظر عن الموقف الشخصي من الجعفري، وهو موقف عدد لا بأس به من الشيعة العرب في العراق الذين يعتبرونه رئيساً للوزراء مستورداً، وبغض النظر عن أن تجربته السابقة في هذا الموقع الذي شغله العام الماضي خلفاً للدكتور أياد علاوي لم تكن مشجعة، لا بد من وضع الأزمة العميقة التي يعيشها العراق في اطار مختلف بعيداً عن هذا الشخص أو ذاك أكان من أصول عربية أو فارسية أو أفغانية كما حال الجعفري.
ما يفترض أن تعالجه الولايات المتحدة ومعها بريطانيا في العراق لا بد أن يتجاوز الأشخاص، وبكلام أوضح، لم يعد مفرّ من طرح السؤال الحقيقي وهو هل لا يزال في الامكان لملمة الوضع العراقي وإعادة بناء دولة اسمها الدولة العراقية؟..
في حال كان مطلوباً الإجابة عن هذا السؤال بدل الهرب منه، لا مفرّ من الاعتراف أولاً بأن البلد صار مسرحاً لحرب أهلية وأنه ليس صحيحاً أن ثمة مخاوف من حرب أهلية، فمن لا يزال يتحدث عن مخاوف من حرب، إنما يجانب الواقع ويرفض الاعتراف به. هذه الحرب بدأت منذ فترة طويلة نتيجة سلسلة الأخطاء التي ارتكبها الأميركيون والتي صبت في انفلات الغرائز في مجتمع قضى النظام العائلي ـ البعثي لصدام حسين على نسيجه الذي عمره مئات السنين.
لم يفعل الأميركيون سوى زرع بذور الطائفية والمذهبية والنعرات القومية في عراق مهيّأ لذلك منذ فترة طويلة، وبإصرارهم على حل الجيش العراقي، دفعوا أهل السنّة العرب في اتجاه الزرقاوي ومن لفّ لفّه من المتطرفين والإرهابيين الذين يؤمنون بالعمليات الانتحارية التي تطاول الأبرياء والتي لا هدف لها سوى زرع الرعب في نفوس الآمنين. وبسماحهم بأن تكون في البلد ميليشيات تابعة لأحزاب وتيارات شيعية، أطلقوا العنان للانتقامات التي معروف كيف تبدأ وليس معروفاً كيف تنتهي أو متى تنتهي. لم يدرك الأميركيون أن دفع السنّة العرب نحو الإرهاب وانفلات الميليشيات الشيعية في الشارع، لا يؤديان سوى إلى حرب أهلية، هذا ما حصل بالفعل. وهذه حقيقة ما يجري في العراق حالياً، والأهم من ذلك كله أن كل الخطوات الأميركية صبت في اتجاه تحقيق النظام الايراني انتصاراً تاريخياً في العراق عبر جعل ولاء الشيعة العراقيين مذهبياً قبل أن يكون قومياً.
لقد استطاع النظام الايراني بفضل الميليشيات التي تدربت لديه والتي دخلت العراق مع الأميركيين الانتقام مما اعتبره خطأ رهيباً في حساباته خلال الحرب التي دارت بينه وبين العراق بين العامين 1980 و1988، وقتذاك، حسب صدام بحساباته الخاطئة المعروفة، أن العرب الايرانيين في خوزستان (عربستان) سيستقبلون جيشه استقبال الفاتحين بمجرد دخوله أراضيهم. لكن هؤلاء خيبوا آماله ودافعوا عن ايران، والشيء ذاته حصل مع النظام الايراني الذي اعتقد أن جنوب العراق بأكثريته الشيعية سينضم إلى القوات الايرانية بمجرد اجتيازها الحدود في اتجاه البصرة. لم يحدث شيء من ذلك وأثبت شيعة العراق في تلك الأيام أنهم عراقيون وعرب قبل أي شيء آخر.
تغيّرت الصورة الآن مع دخول الميليشيات التابعة لـ"الدعوة" و"المجلس الأعلى للثورة الاسلامية"، ليس معروفاً مَن في هذه الميليشيات التي غيّرت طبيعة الحياة الاجتماعية في جنوب العراق وحتى في بغداد، عربي ومن هو غير عربي، من هو عراقي ومن هو غير عراقي، الشيء الوحيد المعروف أن العراق تغيّر وصار الولاء للمذهب والطائفة قبل أن يكون للعراق أكان ذلك لدى أهل السنّة أو لدى الشيعة.
يبدو الموضوع المطلوب معالجته في العراق، أبعد بكثير من موضوع الجعفري واستبداله. ما النفع من رئيس آخر للوزراء إذا كان الإرهاب الذي يمارسه السنّة العرب سيستمر، وما النفع من ذلك في حال بقيت الميليشيات تخطف وتعذّب وتمارس التهجير في مناطق معينة من منطلق مذهبي؟. هل يمكن بناء دولة في ظل وجود ميليشيات معروف أن ولاءها للخارج؟، أليس لبنان بمشاكله الأقل تعقيداً من العراق مثلاً حياً على فشل استعادة الدولة وضعها الطبيعي بسبب الميليشيات المذهبية وما يسمى "الجزر الأمنية"؟.
في النهاية هل تقوم الدولة مجدداً في العراق؟، أو على الأصح هل في الامكان الحديث هذه الأيام عشية الذكرى الثالثة لسقوط نظام صدام ودخول القوات الأميركية إلى بغداد عن مقومات دولة مستقلة في العراق؟، أم أن المطلوب انتظار المحادثات الأميركية ـ الايرانية في شأن مستقبل هذا البلد الذي كان عربياً؟.
يلفت موقع Mustaqbal Web الإلكتروني إلى أنّه ليس مسؤولًا عن التعليقات التي ترده ويأمل من القرّاء الكرام الحفاظ على احترام الأصول واللياقات في التعبير.